الصحابة والقرابة
الصحابة والقرابة
مما لا شك فيه أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تربطهم علاقة وثيقة بأهل بيته الأطهار، تلك العلاقة التي كانت تقوم على الحب والإخاء والمودة التي عز نظيرها، وذلك لأنهم نهلوا من مورد واحد، وأخذوا من مشكاة واحدة، وتربوا جميعا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فضربوا بذلك أروع الأمثلة للمودة والائتلاف، وسطروا على صفحات التاريخ أعظم المواقف التي تعبر عن صدق محبتهم واحترام بعضهم لبعض.
لكن ـ وللأسف الشديد ـ ظهر أناس يزعمون محبة أهل البيت وموالاتهم، فصوروا تلك العلاقة بصورة بشعة جدا، وجعلوها قائمة على المكر والكيد والغدر والخيانة، عبر قصص وروايات مختلقة مكذوبة، وحقائق مزيفة، القصد منها تشويه تاريخ الصحابة رضي الله عنهم، ووصفهم بالظلم والاضطهاد لأهل البيت. فما هي حقيقة علاقة الصحابة بالقرابة؟ هذا ما نريد الكلام حوله عبر المحاور الآتية:
المحور الأول: حب الصحابة للقرابة:
من المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحبون أهل البيت، ويعظمونهم لعظم قدرهم ومنزلتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المظنون بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان هذه المحبة فيما يأتي:
1- تقديم الصديق رضي الله عنه قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قرابته:
أخرج البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام وَالْعَبَّاسَ أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا أَرْضَهُ مِنْ فَدَكٍ وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْمَالِ وَاللَّهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قال أبو بكر ذلك معتذرا عن منعه القسمة وأنه لا يلزم منها أن لا يصلهم ببره من جهة أخرى، ومحصل كلامه أن قرابة الشخص مقدمة في بره، إلا إن عارضهم في ذلك من هو أرجح منهم، والله أعلم.
وفي بعض روايات الحديث: فكأنها وجدت في نفسها من ذلك، فلم تزل تبغضه مدة حياتها، فلما مرضت جاءها الصديق فدخل عليها فجعل يترضاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، فرضيت رضي الله عنها. رواه البيهقي عن الشعبي وقال: هذا مرسل حسن بإسناد صحيح.
قال ابن كثير: وهذا الهجران والحالة هذه فتح على فرقة الرافضة شرا عريضا، وجهلا طويلا، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، يتمسكون بالمتشابه، ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: وأبو بكر وعمر مدة خلافتهما ما زالا مكرمين غاية الإكرام لعلي وسائر بني هاشم يقدمونهم على سائر الناس.. وأبو بكر يذهب وحده إلى بيت علي وعنده بنو هاشم، فيذكر لهم فضلهم ويذكرون له فضله، ويعترفون له باستحقاقه الخلافة ويعتذرون من التأخر، ويبايعونه وهو عندهم وحده، والآثار المتواترة بما كان بين القوم من المحبة والائتلاف توجب كذب من نقل ما يخالف ذلك.
2- وصية أبي بكر بقرابة الرسول صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عمر عن أبي بكر رضي الله عنهم قال: ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. البخاري
قال الحافظ في الفتح تعليقا على هذا الحديث: ( ارقبوا محمدا ) احفظوه . ( في أهل بيته ) فلا تسبوهم ولا تؤذوهم وهم فاطمة وأولادها رضي الله عنها وعنهم . أو هم أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وعنهن.
3- مداعبة أبي بكر رضي الله عنه للحسن.
عن عقبة بن الحارث قال: صلى أبو بكر رضي الله عنه العصر ثم خرج يمشي فرأى الحسن يلعب مع الصبيان فحمله على عاتقه وقال بأبي شبيه بالنبي لا شبيه بعلي وعلي يضحك. البخاري
قوله: (شبيه بالنبي لا شبيه بعلي) أي هو أكثر شبها بالنبي صلى الله عليه وسلم جده من علي رضي الله عنه أبيه . قوله: (وعلي يضحك ) أي موافقا له في قوله معبرا عن رضاه بذلك وسروره.
وفي الحديث فضل أبي بكر ومحبته لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم. الفتح
4- مصاهرة عمر لعلي رضي الله عنهما.
قال البيهقي: (وروينا) في تزويج أم كلثوم بنت علي من عمر بن الخطاب رضى الله عنهما قال: فقال علي: لحسن وحسين رضى الله عنهم زوجا عمكما فزوجاه.
عن عكرمة قال : تزوج عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، وهي جارية تلعب مع الجواري ، فجاء إلى أصحابه فدعوا له بالبركة فقال : إني لم أتزوج من نشاط بي، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي، فأحببت أن يكون بيني وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم سبب ونسب.أخرجه البيهقي وقال هو مرسل حسن
وأما ما يرويه الرافضة عن جعفر الصادق أنه سئل عن زواج عمر رضي الله عنه من أم كلثوم بنت علي فقال: ذاك فرج غصبناه. فهو من الكذب المحض، وذلك أن جميع الروايات التي تحدثت عن هذا الزواج أكدت أن ذلك كان برضى علي رضي الله عنه وأبناءه إكراما لعمر بن الخطاب، وأن عمر أراد بهذا الزواج توطيد العلاقة بينه وبين آل بيت النبي رضي الله عنهم أجمعين.
5- رواية الصحابة فضائل أهل البيت.
معلوم أن جميع الأحاديث والآثار التي اشتملت على فضائل أهل البيت الأطهار رضي الله عنهم، هي من رواية الصحابة رضي الله عنهم، وقد أخرجها أئمة هل السنة في كتبهم، مثل حديث الكساء المشهور وهو: ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)) فهذا الحديث قد ورد من رواية عائشة وأم سلمة وسعد وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة، وقد أخرجه من الأئمة أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وغيرهم من أهل العلم بالحديث, وقد وردت أحاديث أخرى غير حديث الكساء اشتملت على مناقب لأهل البيت كحديث الغدير المشهور أيضا وهو من رواية زيد ابن ثابت رضي الله عنه, وقد أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي في السنن الكبرى وغيرهم.
وكتب السنة والحديث والفقه والسير والتواريخ مشحونة بذكر فضائل أهل البيت ومناقبهم ومآثرهم, وهذا يدل على مدى حب أهل السنة من الصحابة والتابعين والعلماء والمحدثين لآل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم, واعتنائهم بذكر مناقبهم وفضائلهم, وإن كان الرافضة يتأولون هذه المواقف تأويلا يتناسب مع أهوائهم ورغباتهم المنحرفة, وأفكارهم الضالة، فلا يقرون لأهل السنة بأية فضيلة أو حسنة اتجاه أهل البيت, وهذا من الجهل والظلم الذي عرف به الرافضة.
المحور الثاني: حب القرابة للصحابة:
1- مدح علي رضي الله عنه وتفضيله للشيخين رضي الله عنهما على منبر الكوفة.
عن أبي جحيفة يقول: خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة فقال: ألا إن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ولو شئت أن أخبركم بالثالث لأخبرتكم، ثم نزل من على المنبر وهو يقول: عثمان عثمان. رواه حماد بن زيد عن عاصم نحوه. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، وأبو نعيم في حلية الأولياء، وذكر ابن تيمية رحمه الله أن قول علي هذا قد ثبت عنه من نحو ثمانين وجها. وذكر ابن كثير في البداية والنهاية: أن هذا ثبت عنه بالتواتر.
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: وقال علي: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر". هذا والله العظيم قاله علي وهو متواتر عنه لأنه قاله على منبر الكوفة فقاتل الله الرافضة ما أجهلهم.
وفي صحيح البخاري عن محمد بن الحنفية أنه قال لأبيه علي بن أبي طالب : يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : يا بني أو ما تعرف ؟ قلت : لا قال : أبو بكر قلت : ثم من ؟ قال عمر.
قلت: مدح علي رضي الله عنه للشيخين على منبر الكوفة تعبير صريح عن تعظيمه وحبه لهما، بل تبث عنه رضي الله عنه كما ذكر ابن تيمية رحمه الله معاقبة من فضله عليهما، فكيف يقال بعد هذا كله أنه كان يبغض الشيخين، أو أنهما ظلماه, أو غير ذلك من افتراءات الرافضة التي لا هدف لها إلا تشويش عقائد المسلمين، وبلبلة أفكارهم، وبث روح الفرقة والتشتت في صفوفهم.
2- دفاع الحسن والحسين عن عثمان يوم الدار.
قال ابن كثير في البداية والنهاية: كان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما، وقد كان الحسن بن علي يوم الدار وعثمان بن عفان محصور عنده ومعه السيف متقلدا به يحاجف -يدافع- عن عثمان، فخشي عثمان عليه فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييا لقلب علي وخوفا عليه رضى الله عنهم.
وقال أيضا: وسار إليه جماعة من أبناء الصحابة عن أمر آبائهم، منهم الحسن والحسين وعبد الله بن الزبير وكان أمير الدار وعبد الله بن عمرو، وصاروا يحاجون عنه ويناضلون دون أن يصل إليه أحد منهم، وأسلمه بعض الناس. المصدر نفسه
قلت: في هذا الموقف من الحسن والحسين رضي الله عنهما دلالة واضحة على حبهما لعثمان رضي الله عنه، وولاءهما ووفاءهما له، وتضحيتهما بأنفسهما في سبيل نجاته من كيد الثوار الخوارج، ، ولا وفاء أعظم من أن يضحي المرء بنفسه في سبيل من يحبه ويعظمه، وفي هذا التلاحم والترابط بين الصحابة وأهل البيت ما يبين لك زيف ادعاء الروافض فساد العلاقة بين الصحابة وأهل البيت رضي الله عنهم أجمعين. أفلا يستفيد الروافض من هذه المواقف ويكفوا ألسنتهم عن سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- تسمية آل البيت أبناءهم بأسماء الصحابة.
الذي يطالع سيرة أهل البيت رضوان الله عليهم يجد أن بعضهم سمى أبنائه بأسماء الصحابة وبناته بأسماء أمهات المؤمنين، فقد سمى علي بعض أبناءه: أبو بكر، وعثمان، وزينب, وسمى الحسن بعض أبنائه: أبو بكر, وسمى الحسين بعض أبنائه عتيقا, وفي تسمية آل النبي صلى الله عليه وسلم أبناءهم بأسماء الصحابة ما يكشف لك مدى الترابط العميق، والعلاقة الوثيقة التي كانت تمجمع بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته. وفيه أيضا ما يكشف لك بعد الروافض عن منهج أهل البيت وأخلاقهم، حيث بلغ من بغضهم للصحابة كراهية التسمي بأسماء الصحابة، بل ربما قتلوا من تسمى بأسماء بعض الصحابة كأبي بكر وعمر وعائشة كما وقع مرارا في العراق.
4- مدح الأئمة رضي الله عنهم للصحابة.
جاء في تهذيب الكمال: قال محمد بن فضيل بن غزوان، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر محمد بن علي، وجعفر بن محمد عن أبي بكر، وعمر فقالا لي: يا سالم تولهما وابرأ من عدوهما فإنهما كانا إمامي هدى.
وقال إسحاق بن يوسف الأزرق عن بسام الصيرفي: سألت أبا جعفر، قلت: ما تقول في أبي بكر، وعمر ؟ فقال: والله إني لأتولاهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما.
وقال أبو نعيم عن عيسى بن دينار المؤذن: سألت أبا جعفر عن أبي بكر، وعمر، فقال: مسلمان رحمهما الله.
فقلت له: أتولاهما وأستغفر لهما ؟ قال: نعم.
قلت: أتأمرني بذلك ؟ قال: نعم ثلاثا أصابك منهما فعلى عاتقي، وقال بيده على عاتقيه، وقال: كان بالكوفة علي خمس سنين، فما قال لهما إلا خيرا، ولا قال لهما أبي إلا خيرا، ولا أقول إلا خيرا.
وقال إسرائيل بن يونس عن حكيم بن جبير: سألت أبا جعفر عن من يتنقص أبا بكر، وعمر، فقال: أولئك المراق".
قال الذهبي تعليقا على هذه الآثار: كان سالم فيه تشيع ظاهر، ومع هذا فيبث هذا القول الحق، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، وكذلك ناقلها ابن فضيل شيعي ثقة.
فعثر الله شيعة زماننا ما أغرقهم في الجهل والكذب، فينالون من الشيخين وزيري المصطفى صلى الله عليه وسلم ويحملون هذا القول من الباقر والصادق على التقية". سير أعلام النبلاء
خلاصة: لعلك أدركت أخي القارئ بعد هذه المحاور بالدليل القاطع، والبرهان الساطع، مدى الترابط الوثيق الذي كان بين صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وقرابته, وأدركت أن ما يحكيه الروافض من وقوع خصومات وعداوات بين الصحابة والقرابة، إنما هو شيء مكذوب لا أساس له في الواقع، وإنما اختلقه الروافض عبر حكايات وقصص لا زمام لها ولا خطام، إلا مجرد الكذب والبهتان، والنماذج على ذلك كثيرة لا أريد أن سود بها هذه الصفحات، لأنها من الكذب البحت، ورحم الله ابن تيمية الذي قال: "إن الله خلق الكذب وأعطى تسع أعشاره للرافضة".
وقال الجبائي: "الحديث لابن حنبل، والفقه لأصحاب أبي حنيفة، والكلام للمعتزلة والكذب للرافضة". والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
منقول
الصحابة والقرابة
موضوع: الصحابة والقرابة
