الحج ما بين الأمس واليوم يمكن أن يقاس بسنوات ضوئية وهذه الحقيقة الساطعة كشمس في رابعة النهار يعرفها الآباء والأجداد الذين عانوا من مشقة الحج ووعثاء السفر، فالحج بالأمس كان الذاهب إليه مفقوداً والعائد منه مولوداً..
قوافل الحجاج
في الماضي كانت قوافل الحجاج وعبر مئات السنين تنساب على ظـــــــــــهور الإبل تسري في الليل فيبدد صوت الحُداة وحشة الليل ورهبة الصحراء في مواكــــــــب فرح إيمانية تغمر القلوب بفيض زاخر ومشاعر من الأشواق تتــــــوق إلى بيت الله الحـــــرام وتغمر الصحراء مشـــــاهد الأنس والبهجة وهذا هـــــو الوجه المشرق للرحلة والقافلة ولأمير الحج والقافلة.. وعلى الجانب الآخر هناك مشاعر الخوف والقلق من غوائل الغدر والسطو والعدوان وربما المتاهة والموت عطشاً في مفازات الصحراء إنها صور من ذكريات الأمس التي لا تزال تختزلها الذاكرة الشعـــــــــبية ذاكرة الأجداد الذين واجهوا شظف الحياة وقساوة الطريق ووعورته حيـــــــث كانت الرحلة تمتد من الشــــــام أو العراق أو مصـــــر شهوراً عديــــدة للوصـــول إلى الأمل والغاية والموئل إنه بيت الله الحرام..
لصوص وقطاع طرق
يحدثنا يحيى عبدالله آل جعفر الغامدي وعمره حوالي 85سنة فيقول: في الماضي كنا نحج على الدواب ونخترق الجبال مشياً على الأقدام وأكلنا وشربنا ومتاعنا على الدواب تحملها الحمير والجمال وهذه كانت وسيلة النقل الوحيدة في الماضي وكان يستغرق الطريق من الباحة إلى مكة شهراً كاملاً في الذهاب ونمر في طريقنا على أهل البادية نستريح عندهم وكنا أكثر ما نخاف قطاع الطرق واللصوص الذين كانوا يباغتون الحجاج ويترصدونهم فينهبونهم بعد أن يقتلوهم علــــــماً أن الحجاج كانوا مسلحين لمواجهة مخاطر الطريــــــــق وكنا طوال الطريق نقرأ المعوذات وآيات من القرآن الـــــــكريم وندعـــــــــو الله أن نصل سالمين إلى بيت الله الحرام لنتمكن من أداء فريضة الحج وكنا نسير في الليل الدامـــــــس نحــــمل الفوانيس لتضيء لنا الطريق فقد كان الحـــــــج مشــــقة وتعباً وكنا نتعب في المشي وخاصة عند الظهر إذا كان الوقت صيفاً والكثير كان يصل إلى حد الموت عطشاً فكنا نبحث عن الآبار لنتزود من الماء ولا نصل مكة المكرمة إلا بشق الأنفس ونحــــــن مجهدون منهكون من التعـــــــب نظراً لعدم تعبيد الطرق وعدم توفر الخدمات ووسائل النقــــــل المريحة..
أما اليوم فقد أصبح الحج ميسراً لكل من أراد الحج فالإنسان مهما بعدت به المسافات فهو خلال ساعات معدودة يكون في بلاد الحرمين الشريفين وإنها مناسبة أن أتوجه بالشكر لحكومتنا الرشيدة وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين حفظه الله الذي تبرع باستقدام عدد كبير من الحجاج على نفقته الخاصة وهذا يدل على عطف المملكة العربية السعودية وحبها لجميع العالم سواء مسلمين أو غير مسلمين.
ويذكر عبدالله سالم الغامدي من أهالي العقيق بأنه قد حج أكثر من مرة بعضها على الأقدام وبعضها بالسيارات ويقول في عام 1360هـ ذهب إلى الحج عن طريق البر فاستغرق الطريق إلى الطائف 15يوماً على الأقدام وأضاف كنا ننام في المقاهي في مكة والنوم في عرفات ومنى على الأرض فلم يكن هناك خيام..
وقال بأن الكثير من رفاق الرحلة كانوا يموتون في الطريق أو في مكة.. وأضاف: لقد كان الأمن فيما مضى وقبل توحيد الجزيرة العربية مجرد حلم يراود حجاج بيت الله الحرام. وكانت تعيش كغيرها من أصقاع الأرض في ظلام دامس من الجهل والفقر والأمراض الفتاكة والضلالات والعقائد الهدامة والتي ظلت سائدة فيما بين ساكنيها طيلة قرون عديدة وذلك نتيجة لضعف الوازع الديني،ولما أفاء الله على هذه البلاد الطيبة بنعمة الأمن والاستقرار العظيمة، وجاء الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه اهتم بتوفير الأمن والاستقرار لحجاج بيت الله الحرام واستطاع بتوفيق من الله تحقيق ما أراد فأصبح الحاج يؤدي مناسكالحج في أمن وأمان وطمأنينة وخشوع وبكل يسر وسهولة بعد أن كان الخوف والقتل والسلب والغزو تسيطر على نفسية كل حاج يأتي إلى هذه الديار المقدسة التي جعلها الله أمناً ومثابة للناس وأصبح الأمن واقعاً معاشاً يشعر به كل من يعيش في هذه البلاد المقدسة.
والرفقاء من الحجاج يتناوبون السهر في حراسة عفشهم ومن يسهر منهم تراه على الدوام يصرخ بكلمات الاضطراب والانزعاج كقولهم: شايفك.. أبعد.. لا تقرب.. وهكذا.. والحجاج يقضون حاجتهم بين رحالهم في الغالب، ومن ابتعد عنها لا بد أن يكون معه أنيس يحرسه عند انشغاله بنفسه وإلا فإنه لا يحرم واحداً من الأعراب ينقض عليه ويضربه بعصا قصيرة تخمد أنفاسه.. فيشلحه ملابسه ويأخذ حزامه.. وقد يقطع الجمّالة بعض الجمال من القافلة أثناء سيرها ويتظاهرون بإصلاح حمولتها حتى إذا ابتعدت القافلة عنهم أوقعوا بركابها وهم يستغيثون ولا يغاثون.
وكان على طول الطريق إلى الحج المنازل والعيون والآبار التي ينزل فيها الحجاج ثمن الظل
وهناك صوراً قد لا يصدقها العقل كما قال العم في أحد المقاهي بالقرب من رابغ وهي بلدة تعتبر ميقات الإحرام لحجاج مصر وشمالي إفريقيا، شهدت منظراً آذى شعوري وأثار حنـــــــقي، لأنه يصــــــــور الاستـــــغلال في أبشــــــع صـــــورة وأحط أسلوب.
كان المقهى يضيق بالرواد الذين لاذوا بظله يستريحون ويبتردون وكان على مقربة مني شيخ تركي ما أن فرغ من شرابه ونقد الغلام الثمن حتى طلب إليه الغلام في غلظة وفظاظة أن يغادر المكان، وقال الشيخ في عربية ركيكة تخالطها بعض الألفاظ التركية ما معناه:
- ألستُ قد طلبتُ شراباً وأديت الثمن؟! قال الغلام وهو يجذب الشيخ من كتفه: بلى دفعت ثمن الشراب، ولكنك لم تدفع ثمن الظل!!
إنه يريد أن يتقاضى من الشيخ نصف ريال إذا أراد أن يبقى بعد اللحظة الأخيرة، وإلا كان عليه أن يغادر الظل إلى جحيم الصحراء.. ما أبعد الفرق بين الأمس واليوم هذه بعض صور الأمس بلونها الأسود القاتم والمظلم.
في الماضي، ويكفي أن نشير هنا إلى أن الطريق بين مكة والمدينة كانت تحفه الكثير من المخاطر وكان الحجاج يتعرضون فيه لاعتداء القبائل المنتشرة على ذلك الطريق حيث كان ينتشر الأعراب والبدو ويعتبرون نهب الحجاج مصدر رزقهم وعيشهم، فكانوا يرون أن الحاج "رزق ساقه الله إليهم".
أمن وأمان
وجاء الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه وكان همه الأول توطيد الأمن والأمان وبعزيمــــــة وإصرار وإرادة لا تليــــــن فتحقق له ذلك فأصبح اليوم الحــــــج وسيلة ورحلة ماتعــــــة سعيدة لا يشــــــعر فيـــها الإنسان بِنَصَبٍ ولا تَعَب فكل شيء ميسر له فكل شيء اليوم موظف لخدمة الحجيج. لقد غدا الحج أكثر سهولة ويسراً وأمناً واستقراراً فقد أصبح بإمكان الحاج وخلال ساعات معدودة تفصل ما بين منزله في بلاده وما بين وصوله إلى بيت الله الحرام. إن ما تقوم به حكومة خادم الحرمين الشريفين وما تقدمه من خدمات جليلة واهتمام بضيوف الرحمن ليفوق الوصف وتعجز الكلمات عن تجسيد الرعاية الشاملة والخدمات الجليلة والعناية العظيمة التي تقدمها المملكة لضيوف الرحمن وتوفير كل وسائل الراحة والطمأنينة لهم حتى يؤدوا مناسكهم في يسر وسهولة وطمأنينة. إن المشاريع الضخمة والتوسعات العملاقة التي تقوم بها المملكة العربية السعودية بهدف راحة الحجاج واستيعاب أكبر عدد منهم ليرسم الإعجاب والإكبار ودهشة الانبهار وأنا أقرأ بريق الدهشة في عيون جميع الحجاج الذين ذهلوا مما رأوه من إنجازات وخدمات راقية فالجميع مسخر لخدمتهم فهناك شبكة متداخلة من الخدمات التي يلمسها الحاج بنفسه.