حياكم الله في منتديات واحة الإسلام.... تشرفنا زيارتكم.... يزدنا تألقا انضمامكم لاسرتنا.... نعمل لخدمتكم ...فمنتدياتنا صدقة جارية لاجلكم فحياكم الله ونزلتم اهلا وحللتم سهلا
كلمة الإدارة
 
 

 
 
 
 

منتديات واحة الإسلام :: أقسام القرآن الكريم و السيرة النبوية :: واحة القرآن الكريم و علومه ::  تفسير القرآن الكريم

كاتب الموضوع wissam مشاهدة صفحة طباعة الموضوع  | أرسل هذا الموضوع إلى صديق  |  الاشتراك انشر الموضوع
 المشاركة رقم: #
تم النشر فى :28 - 09 - 2016
wissam
Admin
Admin
تواصل معى
https://wahetaleslam.yoo7.com
البيانات
عدد المساهمات : 18291
السٌّمعَة : 21
تاريخ الميلاد : 16/04/1968
تاريخ التسجيل : 29/07/2016
العمر : 56
العمل/الترفيه : ربة منزل
تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية - صفحة 2 Emptyموضوع: تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية

تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية
تفسير سورة البقرة (1) مدنية من 1 - 28 

 تفسير سورة البقرة

وهي مدنية ‏[‏1 ـ 5‏]‏

‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {‏الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏


تقدم الكلام على البسملة‏.‏ وأما الحروف المقطعة في أوائل السور‏,‏ فالأسلم فيها‏,‏ السكوت عن التعرض لمعناها ‏[‏من غير مستند شرعي‏]‏‏,‏ مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثًا بل لحكمة لا نعلمها‏.‏

وقوله ‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ‏}‏ أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة‏,‏ المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم‏,‏ والحق المبين‏.‏ فـ ‏{‏لَا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ ولا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه‏,‏ يستلزم ضده‏,‏ إذ ضد الريب والشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب‏.‏ وهذه قاعدة مفيدة‏,‏ أن النفي المقصود به المدح‏,‏ لا بد أن يكون متضمنا لضدة‏,‏ وهو الكمال‏,‏ لأن النفي عدم‏,‏ والعدم المحض‏,‏ لا مدح فيه‏.‏

فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال‏:‏ ‏{‏هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ والهدى‏:‏ ما تحصل به الهداية من الضلالة والشبه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة‏.‏ وقال ‏{‏هُدًى‏}‏ وحذف المعمول‏,‏ فلم يقل هدى للمصلحة الفلانية‏,‏ ولا للشيء الفلاني‏,‏ لإرادة العموم‏,‏ وأنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية‏,‏ ومبين للحق من الباطل‏,‏ والصحيح من الضعيف‏,‏ ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم‏,‏ في دنياهم وأخراهم‏.‏

وقال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏هُدًى لِلنَّاسِ‏}‏ فعمم‏.‏ وفي هذا الموضع وغيره ‏{‏هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ لأنه في نفسه هدى لجميع الخلق‏.‏ فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا‏.‏ ولم يقبلوا هدى الله‏,‏ فقامت عليهم به الحجة‏,‏ ولم ينتفعوا به لشقائهم، وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر‏,‏ لحصول الهداية‏,‏ وهو التقوى التي حقيقتها‏:‏ اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه‏,‏ بامتثال أوامره‏,‏ واجتناب النواهي‏,‏ فاهتدوا به‏,‏ وانتفعوا غاية الانتفاع‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فرقانا‏}‏ فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية‏,‏ والآيات الكونية‏.‏

ولأن الهداية نوعان‏:‏ هداية البيان‏,‏ وهداية التوفيق‏.‏ فالمتقون حصلت لهم الهدايتان‏,‏ وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق‏.‏ وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها‏,‏ ليست هداية حقيقية ‏[‏تامة‏]‏‏.‏

ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة‏,‏ والأعمال الظاهرة‏,‏ لتضمن التقوى لذلك فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ‏}‏ حقيقة الإيمان‏:‏ هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل‏,‏ المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس‏,‏ فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر‏.‏ إنما الشأن في الإيمان بالغيب‏,‏ الذي لم نره ولم نشاهده‏,‏ وإنما نؤمن به‏,‏ لخبر الله وخبر رسوله‏.‏ فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر‏,‏ لأنه تصديق مجرد لله ورسله‏.‏ فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به‏,‏ أو أخبر به رسوله‏,‏ سواء شاهده‏,‏ أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله‏,‏ أو لم يهتد إليه عقله وفهمه‏.‏ بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية‏,‏ لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم‏,‏ ومرجت أحلامهم‏.‏ وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله‏.‏

ويدخل في الإيمان بالغيب‏,‏ ‏[‏الإيمان بـ‏]‏ بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة‏,‏ وأحوال الآخرة‏,‏ وحقائق أوصاف الله وكيفيتها‏,‏ ‏[‏وما أخبرت به الرسل من ذلك‏]‏ فيؤمنون بصفات الله ووجودها‏,‏ ويتيقنونها‏,‏ وإن لم يفهموا كيفيتها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ‏}‏ لم يقل‏:‏ يفعلون الصلاة‏,‏ أو يأتون بالصلاة‏,‏ لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة‏.‏ فإقامة الصلاة‏,‏ إقامتها ظاهرا‏,‏ بإتمام أركانها‏,‏ وواجباتها‏,‏ وشروطها‏.‏ وإقامتها باطنا بإقامة روحها‏,‏ وهو حضور القلب فيها‏,‏ وتدبر ما يقوله ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ‏}‏ وهي التي يترتب عليها الثواب‏.‏ فلا ثواب للإنسان من صلاته‏,‏ إلا ما عقل منها، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏ يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة‏,‏ والنفقة على الزوجات والأقارب‏,‏ والمماليك ونحو ذلك‏.‏ والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير‏.‏ ولم يذكر المنفق عليهم‏,‏ لكثرة أسبابه وتنوع أهله‏,‏ ولأن النفقة من حيث هي‏,‏ قربة إلى الله، وأتى بـ ‏"‏من‏"‏ الدالة على التبعيض‏,‏ لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم‏,‏ غير ضار لهم ولا مثقل‏,‏ بل ينتفعون هم بإنفاقه‏,‏ وينتفع به إخوانهم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏رَزَقْنَاهُمْ‏}‏ إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم‏,‏ ليست حاصلة بقوتكم وملككم‏,‏ وإنما هي رزق الله الذي خولكم‏,‏ وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده‏,‏ فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم‏,‏ وواسوا إخوانكم المعدمين‏.‏

وكثيرًا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن‏,‏ لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود‏,‏ والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده، فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود‏,‏ وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه‏,‏ فلا إخلاص ولا إحسان‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ وهو القرآن والسنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ‏}‏ فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول‏,‏ ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه‏,‏ فيؤمنون ببعضه‏,‏ ولا يؤمنون ببعضه‏,‏ إما بجحده أو تأويله‏,‏ على غير مراد الله ورسوله‏,‏ كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة‏,‏ الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم‏,‏ بما حاصله عدم التصديق بمعناها‏,‏ وإن صدقوا بلفظها‏,‏ فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ يشمل الإيمان بالكتب السابقة، ويتضمن الإيمان بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه‏,‏ خصوصًا التوراة والإنجيل والزبور، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب السماوية وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ و ‏"‏الآخرة‏"‏ اسم لما يكون بعد الموت، وخصه ‏[‏بالذكر‏]‏ بعد العموم‏,‏ لأن الإيمان باليوم الآخر‏,‏ أحد أركان الإيمان؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، و ‏"‏اليقين‏"‏ هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك‏,‏ الموجب للعمل‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ‏}‏ أي‏:‏ الموصوفون بتلك الصفات الحميدة ‏{‏عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ على هدى عظيم‏,‏ لأن التنكير للتعظيم، وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة، وهل الهداية ‏[‏الحقيقية‏]‏ إلا هدايتهم، وما سواها ‏[‏مما خالفها‏]‏، فهو ضلالة‏.‏

وأتى بـ ‏"‏على‏"‏ في هذا الموضع‏,‏ الدالة على الاستعلاء‏,‏ وفي الضلالة يأتي ب ـ ‏"‏في‏"‏ كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى‏,‏ مرتفع به‏,‏ وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏ والفلاح ‏[‏هو‏]‏ الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم‏,‏ وما عدا تلك السبيل‏,‏ فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك‏.‏

‏[‏6 ـ 7‏]‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏


فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقًا‏,‏ ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم، المعاندين للرسول فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ يخبر تعالى أن الذين كفروا‏,‏ أي‏:‏ اتصفوا بالكفر‏,‏ وانصبغوا به‏,‏ وصار وصفًا لهم لازمًا‏,‏ لا يردعهم عنه رادع‏,‏ ولا ينجع فيهم وعظ، إنهم مستمرون على كفرهم‏,‏ فسواء عليهم أأنذرتهم‏,‏ أم لم تنذرهم لا يؤمنون، وحقيقة الكفر‏:‏ هو الجحود لما جاء به الرسول‏,‏ أو جحد بعضه، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة‏,‏ وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إيمانهم‏,‏ وأنك لا تأس عليهم‏,‏ ولا تذهب نفسك عليهم حسرات‏.‏

ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال‏:‏ ‏{‏خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان‏,‏ ولا ينفذ فيها، فلا يعون ما ينفعهم‏,‏ ولا يسمعون ما يفيدهم‏.‏

‏{‏وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ‏}‏ أي‏:‏ غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم‏,‏ وهذه طرق العلم والخير‏,‏ قد سدت عليهم‏,‏ فلا مطمع فيهم‏,‏ ولا خير يرجى عندهم، وإنما منعوا ذلك‏,‏ وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق‏,‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ وهذا عقاب عاجل‏.‏

ثم ذكر العقاب الآجل، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ وهو عذاب النار‏,‏ وسخط الجبار المستمر الدائم‏.‏

ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر فقال‏:‏

‏[‏8 ـ 10‏]‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏


واعلم أن النفاق هو‏:‏ إظهار الخير وإبطان الشر، ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي‏,‏ والنفاق العملي، كالذي ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله‏:‏ ‏(‏آية المنافق ثلات‏:‏ إذا حدث كذب‏,‏ وإذا وعد أخلف‏,‏ وإذا اؤتمن خان‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏وإذا خاصم فجر‏)‏‏.‏

وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام‏,‏ فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها، ولم يكن النفاق موجودًا قبل هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏[‏من مكة‏]‏ إلى المدينة‏,‏ وبعد أن هاجر‏,‏ فلما كانت وقعة ‏"‏بدر‏"‏ وأظهر الله المؤمنين وأعزهم، ذل من في المدينة ممن لم يسلم‏,‏ فأظهر بعضهم الإسلام خوفًا ومخادعة‏,‏ ولتحقن دماؤهم‏,‏ وتسلم أموالهم‏,‏ فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم‏,‏ وفي الحقيقة ليسوا منهم‏.‏

فمن لطف الله بالمؤمنين‏,‏ أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها‏,‏ لئلا يغتر بهم المؤمنون‏,‏ ولينقمعوا أيضًا عن كثير من فجورهم ‏[‏قال تعالى‏]‏‏:‏ ‏{‏يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ فوصفهم الله بأصل النفاق فقال‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فأكذبهم الله بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ لأن الإيمان الحقيقي‏,‏ ما تواطأ عليه القلب واللسان‏,‏ وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين‏.‏

والمخادعة‏:‏ أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئًا‏,‏ ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤلاء المنافقون‏,‏ سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك‏,‏ فعاد خداعهم على أنفسهم، فإن هذا من العجائب؛ لأن المخادع‏,‏ إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد أو يسلم‏,‏ لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعهم عليهم‏,‏ وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم ‏[‏شيئًا‏]‏ وعباده المؤمنون‏,‏ لا يضرهم كيدهم شيئًا، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان‏,‏ فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم‏,‏ وصار كيدهم في نحورهم‏,‏ وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا‏,‏ والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة‏.‏

ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع‏,‏ بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم‏,‏ والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ والمراد بالمرض هنا‏:‏ مرض الشك والشبهات والنفاق، لأن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله‏:‏ مرض الشبهات الباطلة‏,‏ ومرض الشهوات المردية، فالكفر والنفاق والشكوك والبدع‏,‏ كلها من مرض الشبهات، والزنا‏,‏ ومحبة ‏[‏الفواحش و‏]‏ المعاصي وفعلها‏,‏ من مرض الشهوات ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ وهي شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين‏,‏ فحصل له اليقين والإيمان‏,‏ والصبر عن كل معصية‏,‏ فرفل في أثواب العافية‏.‏

وفي قوله عن المنافقين‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا‏}‏ بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين‏,‏ وأنه بسبب ذنوبهم السابقة‏,‏ يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ‏}‏ فعقوبة المعصية‏,‏ المعصية بعدها‏,‏ كما أن من ثواب الحسنة‏,‏ الحسنة بعدها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى‏}‏

‏[‏11 ـ 12‏]‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏


أي‏:‏ إذا نهي هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض‏,‏ وهو العمل بالكفر والمعاصي‏,‏ ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين ‏{‏قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض‏,‏ وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح‏,‏ قلبا للحقائق‏,‏ وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقًا، وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية‏,‏ مع اعتقاد أنها معصية فهذا أقرب للسلامة‏,‏ وأرجى لرجوعه‏.‏

ولما كان في قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ حصر للإصلاح في جانبهم ـ وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح ـ قلب الله عليهم دعواهم بقوله‏:‏ ‏{‏ألا إنهم هم المفسدون‏}‏ فإنه لا أعظم فسادًا ممن كفر بآيات الله‏,‏ وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه‏,‏ ووالى المحاربين لله ورسوله‏,‏ وزعم مع ذلك أن هذا إصلاح‏,‏ فهل بعد هذا الفساد فساد‏؟‏ ولكن لا يعلمون علمًا ينفعهم‏,‏ وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة الله، وإنما كان العمل بالمعاصي في الأرض إفسادًا‏,‏ لأنه يتضمن فساد ما على وجه الأرض من الحبوب والثمار والأشجار‏,‏ والنبات‏,‏ بما يحصل فيها من الآفات بسبب المعاصي، ولأن الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به‏,‏ لهذا خلق الله الخلق‏,‏ وأسكنهم في الأرض‏,‏ وأدر لهم الأرزاق‏,‏ ليستعينوا بها على طاعته ‏[‏وعبادته‏]‏، فإذا عمل فيها بضده‏,‏ كان سعيا فيها بالفساد فيها‏,‏ وإخرابا لها عما خلقت له‏.‏

‏[‏13‏]‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏


أي‏:‏ إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس‏,‏ أي‏:‏ كإيمان الصحابة رضي الله عنهم، وهو الإيمان بالقلب واللسان‏,‏ قالوا بزعمهم الباطل‏:‏ أنؤمن كما آمن السفهاء‏؟‏ يعنون ـ قبحهم الله ـ الصحابة رضي الله عنهم‏,‏ بزعمهم أن سفههم أوجب لهم الإيمان‏,‏ وترك الأوطان‏,‏ ومعاداة الكفار، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك‏,‏ فنسبوهم إلى السفه‏;‏ وفي ضمنه أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنهى‏.‏

فرد الله ذلك عليهم‏,‏ وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة‏,‏ لأن حقيقة السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه‏,‏ وسعيه فيما يضرها‏,‏ وهذه الصفة منطبقة عليهم وصادقة عليهم، كما أن العقل والحجا‏,‏ معرفة الإنسان بمصالح نفسه‏,‏ والسعي فيما ينفعه‏,‏ و‏[‏في‏]‏ دفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على ‏[‏الصحابة و‏]‏المؤمنين وصادقة عليهم، فالعبرة بالأوصاف والبرهان‏,‏ لا بالدعاوى المجردة‏,‏ والأقوال الفارغة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏[‏14 ـ 15‏]‏ ‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏


هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، و‏[‏ذلك‏]‏ أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين‏,‏ أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم‏,‏ فإذا خلوا إلى شياطينهم ـ أي‏:‏ رؤسائهم وكبرائهم في الشر ـ قالوا‏:‏ إنا معكم في الحقيقة‏,‏ وإنما نحن مستهزءون بالمؤمنين بإظهارنا لهم‏,‏ أنا على طريقتهم، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة‏,‏ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ وهذا جزاء لهم‏,‏ على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والحالة الخبيثة‏,‏ حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين‏,‏ لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة‏,‏ أنه يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا‏,‏ فإذا مشي المؤمنون بنورهم‏,‏ طفئ نور المنافقين‏,‏ وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين‏,‏ فما أعظم اليأس بعد الطمع، ‏{‏يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ‏}‏ الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يزيدهم ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ فجورهم وكفرهم، ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ حائرون مترددون‏,‏ وهذا من استهزائه تعالى بهم‏.‏

ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم‏:‏

‏[‏16‏]‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏


أولئك‏,‏ أي‏:‏ المنافقون الموصوفون بتلك الصفات ‏{‏الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى‏}‏ أي‏:‏ رغبوا في الضلالة‏,‏ رغبة المشتري بالسلعة‏,‏ التي من رغبته فيها يبذل فيها الأثمان النفيسة‏.‏ وهذا من أحسن الأمثلة‏,‏ فإنه جعل الضلالة‏,‏ التي هي غاية الشر‏,‏ كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها، فهذه تجارتهم‏,‏ فبئس التجارة‏,‏ وبئس الصفقة صفقتهم وإذا كان من بذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا‏,‏ فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهما‏؟‏ فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة‏,‏ واختار الشقاء على السعادة‏,‏ ورغب في سافل الأمور عن عاليها ‏؟‏ فما ربحت تجارته‏,‏ بل خسر فيها أعظم خسارة‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏ تحقيق لضلالهم‏,‏ وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء‏,‏ فهذه أوصافهم القبيحة‏.‏

ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف، فقال‏:‏

‏[‏17 ـ 20‏]‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏

أي‏:‏ مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارًا، أي‏:‏ كان في ظلمة عظيمة‏,‏ وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره‏,‏ ولم تكن عنده معدة‏,‏ بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله‏,‏ ونظر المحل الذي هو فيه‏,‏ وما فيه من المخاوف وأمنها‏,‏ وانتفع بتلك النار‏,‏ وقرت بها عينه‏,‏ وظن أنه قادر عليها‏,‏ فبينما هو كذلك‏,‏ إذ ذهب الله بنوره‏,‏ فذهب عنه النور‏,‏ وذهب معه السرور‏,‏ وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة‏,‏ فذهب ما فيها من الإشراق‏,‏ وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة‏:‏ ظلمة الليل‏,‏ وظلمة السحاب‏,‏ وظلمة المطر‏,‏ والظلمة الحاصلة بعد النور‏,‏ فكيف يكون حال هذا الموصوف‏؟‏ فكذلك هؤلاء المنافقون‏,‏ استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين‏,‏ ولم تكن صفة لهم‏,‏ فانتفعوا بها وحقنت بذلك دماؤهم‏,‏ وسلمت أموالهم‏,‏ وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم على ذلك إذ هجم عليهم الموت‏,‏ فسلبهم الانتفاع بذلك النور‏,‏ وحصل لهم كل هم وغم وعذاب‏,‏ وحصل لهم ظلمة القبر‏,‏ وظلمة الكفر‏,‏ وظلمة النفاق‏,‏ وظلم المعاصي على اختلاف أنواعها‏,‏ وبعد ذلك ظلمة النار ‏[‏وبئس القرار‏]‏‏.‏

فلهذا قال تعالى ‏[‏عنهم‏]‏‏:‏ ‏{‏صُمٌّ‏}‏ أي‏:‏ عن سماع الخير، ‏{‏بُكْمٌ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ عن النطق به، ‏{‏عُمْيٌ‏}‏ عن رؤية الحق، ‏{‏فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ‏}‏ لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه‏,‏ فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال‏,‏ فإنه لا يعقل‏,‏ وهو أقرب رجوعا منهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ يعني‏:‏ أو مثلهم كصيب، أي‏:‏ كصاحب صيب من السماء، وهو المطر الذي يصوب‏,‏ أي‏:‏ ينزل بكثرة، ‏{‏فِيهِ ظُلُمَاتٌ‏}‏ ظلمة الليل‏,‏ وظلمة السحاب‏,‏ وظلمات المطر، ‏{‏وَرَعْدٌ‏}‏ وهو الصوت الذي يسمع من السحاب، ‏{‏وَبَرْقٌ‏}‏ وهو الضوء ‏[‏اللامع‏]‏ المشاهد مع السحاب‏.‏

‏{‏كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ‏}‏ البرق في تلك الظلمات ‏{‏مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا‏}‏ أي‏:‏ وقفوا‏.‏

فهكذا حال المنافقين‏,‏ إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده‏,‏ جعلوا أصابعهم في آذانهم‏,‏ وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده ووعيده‏,‏ فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم‏,‏ ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد‏,‏ ويجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت‏,‏ فهذا تمكن له السلامة‏.‏ وأما المنافقون فأنى لهم السلامة‏,‏ وهو تعالى محيط بهم‏,‏ قدرة وعلما فلا يفوتونه ولا يعجزونه‏,‏ بل يحفظ عليهم أعمالهم‏,‏ ويجازيهم عليها أتم الجزاء‏.‏

ولما كانوا مبتلين بالصمم‏,‏ والبكم‏,‏ والعمى المعنوي‏,‏ ومسدودة عليهم طرق الإيمان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ الحسية‏,‏ ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية‏,‏ ليحذروا‏,‏ فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئًا فعله من غير ممانع ولا معارض‏.‏

وفي هذه الآية وما أشبهها‏,‏ رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى‏,‏ لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏

‏[‏21 ـ 22‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏

هذا أمر عام لكل الناس‏,‏ بأمر عام‏,‏ وهو العبادة الجامعة‏,‏ لامتثال أوامر الله‏,‏ واجتناب نواهيه‏,‏ وتصديق خبره‏,‏ فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏

ثم استدل على وجوب عبادته وحده‏,‏ بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم‏,‏ فخلقكم بعد العدم‏,‏ وخلق الذين من قبلكم‏,‏ وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة‏,‏ فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها‏,‏ وتنتفعون بالأبنية‏,‏ والزراعة‏,‏ والحراثة‏,‏ والسلوك من محل إلى محل‏,‏ وغير ذلك من أنواع الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم‏,‏ وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم‏,‏ كالشمس‏,‏ والقمر‏,‏ والنجوم‏.‏

‏{‏وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً‏}‏ والسماء‏:‏ ‏[‏هو‏]‏ كل ما علا فوقك فهو سماء‏,‏ ولهذا قال المفسرون‏:‏ المراد بالسماء ها هنا‏:‏ السحاب، فأنزل منه تعالى ماء، ‏{‏فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ‏}‏ كالحبوب‏,‏ والثمار‏,‏ من نخيل‏,‏ وفواكه‏,‏ ‏[‏وزروع‏]‏ وغيرها ‏{‏رِزْقًا لَكُمْ‏}‏ به ترتزقون‏,‏ وتقوتون وتعيشون وتفكهون‏.‏

‏{‏فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا‏}‏ أي‏:‏ نظراء وأشباها من المخلوقين‏,‏ فتعبدونهم كما تعبدون الله‏,‏ وتحبونهم كما تحبون الله‏,‏ وهم مثلكم‏,‏ مخلوقون‏,‏ مرزوقون مدبرون‏,‏ لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض، ولا ينفعونكم ولا يضرون، ‏{‏وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أن الله ليس له شريك‏,‏ ولا نظير‏,‏ لا في الخلق‏,‏ والرزق‏,‏ والتدبير‏,‏ ولا في العبادة فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك‏؟‏ هذا من أعجب العجب‏,‏ وأسفه السفه‏.‏

وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده‏,‏ والنهي عن عبادة ما سواه‏,‏ وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته‏,‏ وبطلان عبادة من سواه‏,‏ وهو ‏[‏ذكر‏]‏ توحيد الربوبية‏,‏ المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك‏,‏ فكذلك فليكن إقراره بأن ‏[‏الله‏]‏ لا شريك له في العبادة‏,‏ وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري، وبطلان الشرك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ يحتمل أن المعنى‏:‏ أنكم إذا عبدتم الله وحده‏,‏ اتقيتم بذلك سخطه وعذابه‏,‏ لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى‏:‏ أنكم إذا عبدتم الله‏,‏ صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى‏,‏ وكلا المعنيين صحيح‏,‏ وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة‏,‏ كان من المتقين، ومن كان من المتقين‏,‏ حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏

‏[‏23 ـ 24‏]‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏}‏


وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحة ما جاء به، فقال‏:‏ ‏{‏وإن كنتم‏}‏ معشر المعاندين للرسول‏,‏ الرادين دعوته‏,‏ الزاعمين كذبه في شك واشتباه‏,‏ مما نزلنا على عبدنا‏,‏ هل هو حق أو غيره‏؟‏ فها هنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم‏,‏ ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم‏,‏ لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله‏,‏ وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون‏,‏ فأتوا بسورة من مثله‏,‏ واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم‏,‏ فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصًا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة‏,‏ والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله‏,‏ فهو كما زعمتم‏,‏ وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز‏,‏ ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى‏,‏ ودليل واضح ‏[‏جلي‏]‏ على صدقه وصدق ما جاء به‏,‏ فيتعين عليكم اتباعه‏,‏ واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة ‏[‏والشدة‏]‏‏,‏ أن كانت وقودها الناس والحجارة‏,‏ ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب‏,‏ وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله‏.‏ فاحذروا الكفر برسوله‏,‏ بعد ما تبين لكم أنه رسول الله‏.‏

وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي‏,‏ وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى ‏{‏قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏}‏

وكيف يقدر المخلوق من تراب‏,‏ أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب‏؟‏ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه‏,‏ أن يأتي بكلام ككلام الكامل‏,‏ الذي له الكمال المطلق‏,‏ والغنى الواسع من كل الوجوه‏؟‏ هذا ليس في الإمكان‏,‏ ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة ‏[‏بأنواع‏]‏ الكلام‏,‏ إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء‏,‏ ظهر له الفرق العظيم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ‏}‏ إلى آخره‏,‏ دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة‏:‏ ‏[‏هو‏]‏ الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق‏.‏

وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه‏,‏ فهذا لا يمكن رجوعه‏,‏ لأنه ترك الحق بعد ما تبين له‏,‏ لم يتركه عن جهل‏,‏ فلا حيلة فيه‏.‏

وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق‏,‏ بل هو معرض غير مجتهد في طلبه‏,‏ فهذا في الغالب أنه لا يوفق‏.‏

وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم‏,‏ دليل على أن أعظم أوصافه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيامه بالعبودية‏,‏ التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين‏.‏

كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ‏}‏ وفي مقام الإنزال، فقال‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ‏}‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏}‏ ونحوها من الآيات‏,‏ دليل لمذهب أهل السنة والجماعة‏,‏ أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة، وفيها أيضًا‏,‏ أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار‏,‏ لأنه قال‏:‏ ‏{‏أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏}‏ فلو كان ‏[‏عصاة الموحدين‏]‏ يخلدون فيها‏,‏ لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافا للخوارج والمعتزلة‏.‏

وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه‏,‏ وهو الكفر‏,‏ وأنواع المعاصي على اختلافها‏.‏

‏[‏25‏]‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏


لما ذكر جزاء الكافرين‏,‏ ذكر جزاء المؤمنين‏,‏ أهل الأعمال الصالحات‏,‏ على طريقته تعالى في القرآن يجمع بين الترغيب والترهيب‏,‏ ليكون العبد راغبا راهبا‏,‏ خائفا راجيا فقال‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏يا أيها الرسول ومن قام مقامه‏]‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بقلوبهم ‏{‏وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ بجوارحهم‏,‏ فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة‏.‏

ووصفت أعمال الخير بالصالحات‏,‏ لأن بها تصلح أحوال العبد‏,‏ وأمور دينه ودنياه‏,‏ وحياته الدنيوية والأخروية‏,‏ ويزول بها عنه فساد الأحوال‏,‏ فيكون بذلك من الصالحين‏,‏ الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته‏.‏

فبشرهم ‏{‏أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ‏}‏ أي‏:‏ بساتين جامعة من الأشجار العجيبة‏,‏ والثمار الأنيقة‏,‏ والظل المديد‏,‏ ‏[‏والأغصان والأفنان وبذلك‏]‏ صارت جنة يجتن بها داخلها‏,‏ وينعم فيها ساكنها‏.‏

‏{‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏}‏ أي‏:‏ أنهار الماء‏,‏ واللبن‏,‏ والعسل‏,‏ والخمر، يفجرونها كيف شاءوا‏,‏ ويصرفونها أين أرادوا‏,‏ وتشرب منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار‏.‏

‏{‏كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ هذا من جنسه‏,‏ وعلى وصفه‏,‏ كلها متشابهة في الحسن واللذة، ليس فيها ثمرة خاصة‏,‏ وليس لهم وقت خال من اللذة‏,‏ فهم دائما متلذذون بأكلها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا‏}‏ قيل‏:‏ متشابها في الاسم‏,‏ مختلف الطعوم وقيل‏:‏ متشابها في اللون‏,‏ مختلفا في الاسم، وقيل‏:‏ يشبه بعضه بعضًا‏,‏ في الحسن‏,‏ واللذة‏,‏ والفكاهة‏,‏ ولعل هذا الصحيح

ثم لما ذكر مسكنهم‏,‏ وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم‏,‏ ذكر أزواجهم‏,‏ فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه‏,‏ وأوضحه فقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ‏}‏ فلم يقل‏:‏ ‏"‏مطهرة من العيب الفلاني‏"‏ ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق‏,‏ مطهرات الخلق‏,‏ مطهرات اللسان‏,‏ مطهرات الأبصار، فأخلاقهن‏,‏ أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن‏,‏ وحسن التبعل‏,‏ والأدب القولي والفعلي‏,‏ ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني‏,‏ والبول والغائط‏,‏ والمخاط والبصاق‏,‏ والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضًا‏,‏ بكمال الجمال‏,‏ فليس فيهن عيب‏,‏ ولا دمامة خلق‏,‏ بل هن خيرات حسان‏,‏ مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن‏,‏ وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح‏.‏

ففي هذه الآية الكريمة‏,‏ ذكر المبشِّر والمبشَّر‏,‏ والمبشَّرُ به‏,‏ والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِّر‏:‏ هو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر‏:‏ هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشَّر به‏:‏ هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك‏,‏ هو الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة‏,‏ إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة‏,‏ على يد أفضل الخلق‏,‏ بأفضل الأسباب‏.‏

وفيه استحباب بشارة المؤمنين‏,‏ وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها ‏[‏وثمراتها‏]‏‏,‏ فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان‏,‏ توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله أن يجعلنا منهم‏.‏

‏[‏26 ـ 27‏]‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مثلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مثلًا يُضِلُّ بِهِ كثيرًا وَيَهْدِي بِهِ كثيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مثلًا مَا‏}‏ أي‏:‏ أيَّ مثل كان ‏{‏بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا‏}‏ لاشتمال الأمثال على الحكمة‏,‏ وإيضاح الحق‏,‏ والله لا يستحيي من الحق، وكأن في هذا‏,‏ جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله في ذلك‏.‏ فليس في ذلك محل اعتراض‏.‏ بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم‏.‏ فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ‏}‏ فيتفهمونها، ويتفكرون فيها‏.‏

فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل، ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا، بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مثلًا‏}‏ فيعترضون ويتحيرون، فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كثيرًا وَيَهْدِي بِهِ كثيرًا‏}‏ فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏ فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة ‏[‏وضلالة‏]‏ وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة ‏[‏ورحمة‏]‏ وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال‏.‏

ثم ذكر حكمته في إضلال من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ الخارجين عن طاعة الله‏;‏ المعاندين لرسل الله‏;‏ الذين صار الفسق وصفهم‏;‏ فلا يبغون به بدلا، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضت حكمته وفضله هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة‏.‏

والفسق نوعان‏:‏ نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان‏;‏ كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ ‏[‏الآية‏]‏‏.‏

ثم وصف الفاسقين فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏}‏ وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي بينهم وبين عباده الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق‏;‏ بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه‏;‏ وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق‏.‏

‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ‏}‏ وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب‏;‏ وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها‏.‏

فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم‏;‏ معتاضين عنها بالفسق والقطيعة‏;‏ والعمل بالمعاصي‏;‏ وهو‏:‏ الإفساد في الأرض‏.‏

فـ ‏{‏فَأُولَئِكَ‏}‏ أي‏:‏ من هذه صفته ‏{‏هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم‏;‏ لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم‏;‏ ليس لهم نوع من الربح؛ لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان‏;‏ فمن لا إيمان له لا عمل له‏;‏ وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا‏;‏ وقد يكون معصية‏;‏ وقد يكون تفريطا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ‏}‏ فهذا عام لكل مخلوق‏;‏ إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح‏;‏ والتواصي بالحق‏;‏ والتواصي بالصبر‏;‏ وحقيقة فوات الخير‏;‏ الذي ‏[‏كان‏]‏ العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه‏.‏

‏[‏28‏]‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏


هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي‏:‏ كيف يحصل منكم الكفر بالله‏;‏ الذي خلقكم من العدم‏;‏ وأنعم عليكم بأصناف النعم‏;‏ ثم يميتكم عند استكمال آجالكم‏;‏ ويجازيكم في القبور‏;‏ ثم يحييكم بعد البعث والنشور‏;‏ ثم إليه ترجعون‏;‏ فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه‏;‏ وتدبيره‏;‏ وبره‏;‏ وتحت أوامره الدينية‏;‏ ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي‏;‏ أفيليق بكم أن تكفروا به‏;‏ وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه وحماقة‏؟‏ بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه‏;‏ وترجوا ثوابه‏.‏


الموضوع الأصلي : تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية // المصدر : منتديات واحة الإسلام // الكاتب: wissam
التوقيع: wissam



تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية - صفحة 2 2410


الأربعاء سبتمبر 28, 2016 3:27 pm
المشاركة رقم: #
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
Admin
الرتبه:
Admin
الصورة الرمزية

wissam

البيانات
عدد المساهمات : 18291
السٌّمعَة : 21
تاريخ الميلاد : 16/04/1968
تاريخ التسجيل : 29/07/2016
العمر : 56
العمل/الترفيه : ربة منزل

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://wahetaleslam.yoo7.com

مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية


[b]تفسير سورة البقرة

من 249 - 252


[‏249 ـ 252‏]‏ ‏{‏فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏


أي‏:‏ لما تملَّك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال عدوهم، فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرًا وجما غفيرًا، امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال‏:‏ ‏{‏إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني‏}‏ فهو عاص ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته ‏{‏ومن لم يطعمه‏}‏ أي‏:‏ لم يشرب منه فإنه مني ‏{‏إلا من اغترف غرفة بيده‏}‏ فلا جناح عليه في ذلك، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان، فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة، وكان في رجوعهم عن باقي العسكر ما يزداد به الثابتون توكلا على الله، وتضرعًا واستكانة وتبرؤا من حولهم وقوتهم، وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم، فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما جاوزه‏}‏ أي‏:‏ النهر ‏{‏هو‏}‏ أي‏:‏ طالوت ‏{‏والذين آمنوا معه‏}‏ وهم الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا‏.‏‏.‏‏.‏ قلتهم وكثرة أعدائهم، قالوا أي‏:‏ قال كثير منهم ‏{‏لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده‏}‏ لكثرتهم وعَددهم وعُددهم ‏{‏قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله‏}‏ أي‏:‏ يستيقنون ذلك، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر ‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله‏}‏ أي‏:‏ بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، ‏{‏والله مع الصابرين‏}‏ بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم‏.‏

ولهذا لما برزوا لجالوت وجنوده ‏{‏قالوا‏}‏ جميعهم ‏{‏ربنا أفرغ علينا صبرا‏}‏ أي‏:‏ قو قلوبنا، وأوزعنا الصبر، وثبت أقدامنا عن التزلزل والفرار، وانصرنا على القوم الكافرين‏.‏

من ها هنا نعلم أن جالوت وجنوده كانوا كفارا، فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك، ونصرهم عليهم ‏{‏فهزموهم بإذن الله وقتل داود‏}‏ عليه السلام، وكان مع جنود طالوت، ‏{‏جالوت‏}‏ أي‏:‏ باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره ‏{‏وآتاه الله‏}‏ أي‏:‏ آتى الله داود ‏{‏الملك والحكمة‏}‏ أي‏:‏ منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم، ولهذا قال ‏{‏وعلمه مما يشاء‏}‏ من العلوم الشرعية والعلوم السياسية، فجمع الله له الملك والنبوة، وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك لغيرهم، فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله، فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏}‏ أي‏:‏ لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه ‏{‏ولكن الله ذو فضل على العالمين‏}‏ حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالصدق الذي لا ريب فيها المتضمن للاعتبار والاستبصار وبيان حقائق الأمور ‏{‏وإنك لمن المرسلين‏}‏ فهذه شهادة من الله لرسوله برسالته التي من جملة أدلتها ما قصه الله عليه من أخبار الأمم السالفين والأنبياء وأتباعهم وأعدائهم التي لولا خبر الله إياه لما كان عنده بذلك علم بل لم يكن في قومه من عنده شيء من هذه الأمور، فدل أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا الذي بعثه بالحق ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‏.‏

وفي هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب، فمنها‏:‏ أن اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه، ثم العمل به، أكبر سبب لارتقائهم وحصول مقصودهم، كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم ويلم متفرقهم، وتحصل له الطاعة منهم، ومنها‏:‏ أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء، لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب‏.‏ ومنها‏:‏ أن العلم والرأي‏:‏ مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها‏.‏ ومنها‏:‏ أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر، فالأول كما في قولهم لنبيهم ‏{‏وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا‏}‏ فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا، والثاني في قوله‏:‏ ‏{‏ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله‏}‏ ومنها‏:‏ أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز‏.‏ ومنها‏:‏ أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها
[/b]







التوقيع: wissam



تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية - صفحة 2 2410



الأربعاء سبتمبر 28, 2016 3:28 pm
المشاركة رقم: #
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
Admin
الرتبه:
Admin
الصورة الرمزية

wissam

البيانات
عدد المساهمات : 18291
السٌّمعَة : 21
تاريخ الميلاد : 16/04/1968
تاريخ التسجيل : 29/07/2016
العمر : 56
العمل/الترفيه : ربة منزل

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://wahetaleslam.yoo7.com

مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية


الجزء الثالث
[b]تفسير سورة البقرة


من253 - 270

الجزء الثالث

‏[‏253‏]‏ ‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ‏}‏


يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس، ودعائهم الخلق إلى الله، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين ‏{‏وآتينا عيسى ابن مريم البينات‏}‏ الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ‏{‏وأيدناه بروح القدس‏}‏ أي‏:‏ بالإيمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر به، وقيل أيده بجبريل عليه السلام يلازمه في أحواله ‏{‏ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ الموجبة للاجتماع على الإيمان ‏{‏ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر‏}‏ فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة، ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا، فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للأسباب، وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة، فإذا وجدت اضمحل كل سبب، وزال كل موجب، فلهذا قال ‏{‏ولكن الله يفعل ما يريد‏}‏ فإرادته غالبة ومشيئته نافذة، وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته، ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الاستواء والنزول والأقوال، والأفعال التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية‏.‏

فائدة‏:‏ كما يجب على المكلف معرفته بربه، فيجب عليه معرفته برسله، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة، منها‏:‏ أنهم رجال لا نساء، من أهل القرى لا من أهل البوادي، وأنهم مصطفون مختارون، جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار، وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية، وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف، وأن الله تعالى خصهم بوحيه، فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر، ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله، ودلائل هذه الجمل كثيرة، من تدبر القرآن تبين له الحق، ثم قال تعالى‏:‏

‏[‏254‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏

وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله، من صدقة واجبة ومستحبة، ليكون لهم ذخرًا وأجرًا موفرًا في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير، فلا بيع فيه ولو افتدى الإنسان نفسه بملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه، ولم ينفعه خليل ولا صديق لا بوجاهة ولا بشفاعة، وهو اليوم الذي فيه يخسر المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين، وهم الذين وضعوا الشيء في غير موضعه، فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلال إلى الحرام، وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين أن تكون لله فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله، فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏والكافرون هم الظالمون‏}‏ وهذا من باب الحصر، أي‏:‏ الذين ثبت لهم الظلم التام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏

‏[‏255‏]‏ ‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السموات وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ‏}‏


هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات، فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ أي‏:‏ لا معبود بحق سواه، فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه، ممتثلًا أوامره مجتنبًا نواهيه، وكل ما سوى الله تعالى باطل، فعبادة ما سواه باطلة، لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرًا فقيرًا من جميع الوجوه، فلم يستحق شيئًا من أنواع العبادة، وقوله‏:‏ ‏{‏الحي القيوم‏}‏ هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما، فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات، كالسمع والبصر والعلم والقدرة، ونحو ذلك، والقيوم‏:‏ هو الذي قام بنفسه وقام بغيره، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء، وسائر أنواع التدبير، كل ذلك داخل في قيومية الباري، ولهذا قال بعض المحققين‏:‏ إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى، ومن تمام حياته وقيوميته أن ‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ والسنة النعاس ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ أي‏:‏ هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض فلهذا قال‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏ أي‏:‏ لا أحد يشفع عنده بدون إذنه، فالشفاعة كلها لله تعالى، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن، ثم قال ‏{‏يعلم ما بين أيديهم‏}‏ أي‏:‏ ما مضى من جميع الأمور ‏{‏وما خلفهم‏}‏ أي‏:‏ ما يستقبل منها، فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور، متقدمها ومتأخرها، بالظواهر والبواطن، بالغيب والشهادة، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏ وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السموات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى، بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش، وما لا يعلمه إلا هو، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع، والذي قد أمسك السموات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا يؤوده‏}‏ أي‏:‏ يثقله ‏{‏حفظهما وهو العلي‏}‏ بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته ‏{‏العظيم‏}‏ الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء، فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده، وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته، فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته، متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا، ثم قال تعالى‏:‏

‏[‏256 ـ 257‏]‏ ‏{‏لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏


يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحًا، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر، ولكن يستدل في الآية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب، كما هو قول كثير من العلماء، فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة الشيطان، ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته ‏{‏فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ أي‏:‏ بالدين القويم الذي ثبتت قواعده ورسخت أركانه، وكان المتمسك به على ثقة من أمره، لكونه استمسك بالعروة الوثقى التي ‏{‏لا انفصام لها‏}‏ وأما من عكس القضية فكفر بالله وآمن بالطاغوت، فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة، واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ فيجازي كلا منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر، وهذا هو الغاية لمن استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها‏.‏

ثم ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك فقال‏:‏ ‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏}‏ وهذا يشمل ولايتهم لربهم، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا، قد اتخذوه حبيبا ووليا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور ‏{‏والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت‏}‏ فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

‏[‏258‏]‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه‏}‏ أي‏:‏ إلى جرائته وتجاهله وعناده ومحاجته فيما لا يقبل التشكيك، وما حمله على ذلك إلا ‏{‏أن آتاه الله الملك‏}‏ فطغى وبغى ورأى نفسه مترئسا على رعيته، فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله فزعم أنه يفعل كما يفعل الله، فقال إبراهيم ‏{‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏ أي‏:‏ هو المنفرد بأنواع التصرف، وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير، ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة، فقال ذلك المحاج‏:‏ ‏{‏أنا أحيي وأميت‏}‏ ولم يقل أنا الذي أحيي وأميت، لأنه لم يدع الاستقلال بالتصرف، وإنما زعم أنه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه، فزعم أنه يقتل شخصا فيكون قد أماته، ويستبقي شخصا فيكون قد أحياه، فلما رآه إبراهيم يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء لا يصلح أن يكون شبهة فضلًا عن كونه حجة، اطرد معه في الدليل فقال إبراهيم‏:‏ ‏{‏فإن الله يأتي بالشمس من المشرق‏}‏ أي‏:‏ عيانا يقر به كل أحد حتى ذلك الكافر ‏{‏فأت بها من المغرب‏}‏ وهذا إلزام له بطرد دليله إن كان صادقا في دعواه، فلما قال له أمرا لا قوة له في شبهة تشوش دليله، ولا قادحا يقدح في سبيله ‏{‏بهت الذي كفر‏}‏ أي‏:‏ تحير فلم يرجع إليه جوابا وانقطعت حجته وسقطت شبهته، وهذه حالة المبطل المعاند الذي يريد أن يقاوم الحق ويغالبه، فإنه مغلوب مقهور، فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم، وهم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك، وإلا فلو كان قصدهم الحق والهداية لهداهم إليه ويسر لهم أسباب الوصول إليه، ففي هذه الآية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير، ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والإنابة والتوكل عليه في جميع الأحوال، قال ابن القيم رحمه الله‏:‏ وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا، وهي أن شرك العالم إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور، ثم صورت الأصنام على صورها، فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته ولا بعد موته، فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة، ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على صورته، ويعبد من دونه، وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة، لا تصرف لها بنفسها بوجه ما، بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته، فهي مربوبة مسخرة مدبرة، لا إله يعبد من دون الله‏.‏ ‏"‏من مفتاح دار السعادة‏"‏ ثم قال تعالى‏:‏

‏[‏259‏]‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏


وهذا أيضًا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والإماتة والإحياء، فقال‏:‏ ‏{‏أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها‏}‏ أي‏:‏ قد باد أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها، فلم يبق بها أنيس بل بقيت موحشة من أهلها مقفرة، فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا و ‏{‏قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏}‏ استبعادا لذلك وجهلًا بقدرة الله تعالى، فلما أراد الله به خيرًا أراه آية في نفسه وفي حماره، وكان معه طعام وشراب، ‏{‏فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم‏}‏ استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته وحواسه وكان عهد حاله قبل موته، فقيل له ‏{‏بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه‏}‏ أي‏:‏ لم يتغير بل بقي على حاله على تطاول السنين واختلاف الأوقات عليه، ففيه أكبر دليل على قدرته حيث أبقاه وحفظه عن التغير والفساد، مع أن الطعام والشراب من أسرع الأشياء فسادا ‏{‏وانظر إلى حمارك‏}‏ وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده وانتثرت عظامه، وتفرقت أوصاله ‏{‏ولنجعلك آية للناس‏}‏ على قدرة الله وبعثه الأموات من قبورهم، لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالأبصار، فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل ‏{‏وانظر إلى العظام كيف ننشزها‏}‏ أي‏:‏ ندخل بعضها في بعض، ونركب بعضها ببعض ‏{‏ثم نكسوها لحما‏}‏ فنظر إليها عيانا كما وصفها الله تعالى، ‏{‏فلما تبين له‏}‏ ذلك وعلم قدرة الله تعالى ‏{‏قال أعلم أن الله على كل شيء قدير‏}‏ والظاهر من سياق الآية أن هذا رجل منكر للبعث أراد الله به خيرا، وأن يجعله آية ودليلا للناس لثلاثة أوجه أحدها قوله ‏{‏أنى يحيي هذه الله بعد موتها‏}‏ ولو كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل ذلك، والثاني‏:‏ أن الله أراه آية في طعامه وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه فيقر بما أنكره، ولم يذكر في الآية أن القرية المذكورة عمرت وعادت إلى حالتها، ولا في السياق ما يدل على ذلك، ولا في ذلك كثير فائدة، ما الفائدة الدالة على إحياء الله للموتى في قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها‏؟‏‏!‏ وإنما الدليل الحقيقي في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله، والثالث في قوله‏:‏ ‏{‏فلما تبين له‏}‏ أي‏:‏ تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه، فعلم بذلك صحة ما ذكرناه، والله أعلم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏

‏[‏260‏]‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏


وهذا فيه أيضًا أعظم دلالة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث والجزاء، فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف يحيي الموتى، لأنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانًا ليحصل له مرتبة عين اليقين، فلهذا قال الله له‏:‏ ‏{‏أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي‏}‏ وذلك أنه بتوارد الأدلة اليقينية مما يزداد به الإيمان ويكمل به الإيقان ويسعى في نيله أولو العرفان، فقال له ربه ‏{‏فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك‏}‏ أي‏:‏ ضمهن ليكون ذلك بمرأى منك ومشاهدة وعلى يديك‏.‏ ‏{‏ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا‏}‏ أي‏:‏ مزقهن، اخلط أجزاءهن بعضها ببعض، واجعل على كل جبل، أي‏:‏ من الجبال التي في القرب منه، جزء من تلك الأجزاء ‏{‏ثم ادعهن يأتينك سعيًا‏}‏ أي‏:‏ تحصل لهن حياة كاملة، ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران، ففعل إبراهيم عليه السلام ذلك وحصل له ما أراد وهذا من ملكوت السموات والأرض الذي أراه الله إياه في قوله ‏{‏وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واعلم أن الله عزيز حكيم‏}‏ أي‏:‏ ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات، فلم يستعص عليه شيء منها، بل هي منقادة لعزته خاضعة لجلاله، ومع ذلك فأفعاله تعالى تابعة لحكمته، لا يفعل شيئًا عبثًا، ثم قال تعالى‏:‏

‏[‏261‏]‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏


هذا بيان للمضاعفة التي ذكرها الله في قوله ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة‏}‏ وهنا قال‏:‏ ‏{‏مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ في طاعته ومرضاته، وأولاها إنفاقها في الجهاد في سبيله ‏{‏كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة‏}‏ وهذا إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل، الذي كان العبد يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته، فيقوى شاهد الإيمان مع شاهد العيان، فتنقاد النفس مذعنة للإنفاق سامحة بها مؤملة لهذه المضاعفة الجزيلة والمنة الجليلة، ‏{‏والله يضاعف‏}‏ هذه المضاعفة ‏{‏لمن يشاء‏}‏ أي‏:‏ بحسب حال المنفق وإخلاصه وصدقه وبحسب حال النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها، ويحتمل أن يكون ‏{‏والله يضاعف‏}‏ أكثر من هذه المضاعفة ‏{‏لمن يشاء‏}‏ فيعطيهم أجرهم بغير حساب ‏{‏والله واسع‏}‏ الفضل، واسع العطاء، لا ينقصه نائل ولا يحفيه سائل، فلا يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة، لأن الله تعالى لا يتعاظمه شيء ولا ينقصه العطاء على كثرته، ومع هذا فهو ‏{‏عليم‏}‏ بمن يستحق هذه المضاعفة ومن لا يستحقها، فيضع المضاعفة في موضعها لكمال علمه وحكمته‏.‏

‏[‏262‏]‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ‏}‏


أي‏:‏ الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله وسبيله، ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها على المنفق عليه بالقلب أو باللسان، بأن يعدد عليه إحسانه ويطلب منه مقابلته، ولا أذية له قولية أو فعلية، فهؤلاء لهم أجرهم اللائق بهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فحصل لهم الخير واندفع عنهم الشر لأنهم عملوا عملا خالصا لله سالما من المفسدات‏.‏

‏{‏قول معروف‏}‏ أي‏:‏ تعرفه القلوب ولا تنكره، ويدخل في ذلك كل قول كريم فيه إدخال السرور على قلب المسلم، ويدخل فيه رد السائل بالقول الجميل والدعاء له ‏{‏ومغفرة‏}‏ لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو عنه، ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما لا ينبغي، فالقول المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى، لأن القول المعروف إحسان قولي، والمغفرة إحسان أيضًا بترك المؤاخذة، وكلاهما إحسان ما فيه مفسد، فهما أفضل من الإحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بمنّ أو غيره، ومفهوم الآية أن الصدقة التي لا يتبعها أذى أفضل من القول المعروف والمغفرة، وإنما كان المنّ بالصدقة مفسدا لها محرمًا، لأن المنّة لله تعالى وحده، والإحسان كله لله، فالعبد لا يمنّ بنعمة الله وإحسانه وفضله وهو ليس منه، وأيضًا فإن المانّ مستعبِدٌ لمن يمنّ عليه، والذل والاستعباد لا ينبغي إلا لله، والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته، وكلها مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالات والأوقات، فصدقتكم وإنفاقكم وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم، ‏{‏والله غني‏}‏ عنها، ومع هذا فهو ‏{‏حليم‏}‏ على من عصاه لا يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه، ولكن رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين، بل يمهلهم ويصرّف لهم الآيات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه، فإذا علم تعالى أنه لا خير فيهم ولا تغني عنهم الآيات ولا تفيد بهم المثلًات أنزل بهم عقابه وحرمهم جزيل ثوابه‏.‏

‏[‏264‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏}‏


ينهى عباده تعالى لطفا بهم ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى ففيه أن المن والأذى يبطل الصدقة، ويستدل بهذا على أن الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون‏}‏ فكما أن الحسنات يذهبن السيئات فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات، وفي هذه الآية مع قوله تعالى ‏{‏ولا تبطلوا أعمالكم‏}‏ حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها لئلا يضيع العمل سدى، وقوله‏:‏ ‏{‏كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ أي‏:‏ أنتم وإن قصدتم بذلك وجه الله في ابتداء الأمر، فإن المنة والأذى مبطلان لأعمالكم، فتصير أعمالكم بمنزلة الذي يعمل لمراءاة الناس ولا يريد به الله والدار الآخرة، فهذا لا شك أن عمله من أصله مردود، لأن شرط العمل أن يكون لله وحده وهذا في الحقيقة عمل للناس لا لله، فأعماله باطلة وسعيه غير مشكور، فمثله المطابق لحاله ‏{‏كمثل صفوان‏}‏ وهو الحجر الأملس الشديد ‏{‏عليه تراب فأصابه وابل‏}‏ أي‏:‏ مطر غزير ‏{‏فتركه صلدا‏}‏ أي‏:‏ ليس عليه شيء من التراب، فكذلك حال هذا المرائي، قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان، وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان، إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة للنبات، فإذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة السراب، وأن قلبه غير صالح لنبات الزرع وزكائه عليه، بل الرياء الذي فيه والإرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء من عمله، فلهذا ‏{‏لا يقدرون على شيء‏}‏ من أعمالهم التي اكتسبوها، لأنهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها لمخلوق مثلهم، لا يملك لهم ضررا ولا نفعا وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم عبادته، فصرف الله قلوبهم عن الهداية، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏

‏[‏265‏]‏ ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏


هذا مثل المنفقين أموالهم على وجه تزكو عليه نفقاتهم وتقبل به صدقاتهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله‏}‏ أي‏:‏ قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه ‏{‏وتثبيتا من أنفسهم‏}‏ أي‏:‏ صدر الإنفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به، لا على وجه التردد وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد الإنسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء، أو يخرجها على خور وضعف عزيمة وتردد، فهؤلاء سلموا من هاتين الآفتين فأنفقوا ابتغاء مرضات الله لا لغير ذلك من المقاصد، وتثبيتا من أنفسهم، فمثل نفقة هؤلاء ‏{‏كمثل جنة‏}‏ أي‏:‏ كثيرة الأشجار غزيرة الظلال، من الاجتنان وهو الستر، لستر أشجارها ما فيها، وهذه الجنة ‏{‏بربوة‏}‏ أي‏:‏ محل مرتفع ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره، فثماره أكثر الثمار وأحسنها، ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس، فـ ‏{‏أصابها‏}‏ أي‏:‏ تلك الجنة التي بربوة ‏{‏وابل‏}‏ وهو المطر الغزير ‏{‏فآتت أكلها ضعفين‏}‏ أي‏:‏ تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها ووجود الأسباب الموجبة لذلك، وحصول الماء الكثير الذي ينميها ويكملها ‏{‏فإن لم يصبها وابل فطل‏}‏ أي‏:‏ مطر قليل يكفيها لطيب منبتها، فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة والقليلة كل على حسب حاله، وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك، الذي يريد مصلحتك حيث لا تريدها، فيالله لو قدر وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لأسرعت إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد، ولحصل الاقتتال عنده، مع انقضاء هذه الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها، وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة الإيمان، دائم مستمر فيه أنواع المسرات والفرحات، ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة، والعزائم عن طلبه خامدة، أترى ذلك زهدا في الآخرة ونعيمها، أم ضعف إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه‏؟‏‏!‏ وإلا فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر الإيمان به بشاشة قلبه لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه، وتوجهت همم عزائمه إليه، وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏ فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل، فيجازيه عليه أتم الجزاء ثم قال تعالى‏:‏

‏[‏266‏]‏ ‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏


وهذا المثل مضروب لمن عمل عملا لوجه الله تعالى من صدقة أو غيرها ثم عمل أعمالا تفسده، فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات، وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما، لكونهما غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى، وتلك الجنة فيها الأنهار الجارية التي تسقيها من غير مؤنة، وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته، ثم إنه أصابه الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه، وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة له، بل هم كل عليه، ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة، فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو، وفي ذلك الإعصار نار فاحترقت تلك الجنة، فلا تسأل عما لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن، فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله الحزن، كذلك من عمل عملا لوجه الله فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار، ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء، وتلك المفسدات التي تفسد الأعمال بمنزلة الإعصار الذي فيه نار، والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة لا يقدر معها على العمل، فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباءً منثورًا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه‏.‏

والله سريع الحساب فلو علم الإنسان وتصور هذه الحال وكان له أدنى مسكة من عقل لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته ولكن ضعف الإيمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه إلى هذه الحالة التي لو صدرت من مجنون لا يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما، فلهذا أمر تعالى بالتفكر وحثَّ عليه، فقال‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون‏}‏

‏[‏267 ـ 268‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم من المكاسب، ومما أخرج لهم من الأرض فكما منَّ عليكم بتسهيل تحصيله فأنفقوا منه شكرًا لله وأداء لبعض حقوق إخوانكم عليكم، وتطهيرا لأموالكم، واقصدوا في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لأنفسكم، ولا تيمموا الرديء الذي لا ترغبونه ولا تأخذونه إلا على وجه الإغماض والمسامحة ‏{‏واعلموا أن الله غني حميد‏}‏ فهو غني عنكم ونفع صدقاتكم وأعمالكم عائد إليكم، ومع هذا فهو حميد على ما يأمركم به من الأوامر الحميدة والخصال السديدة، فعليكم أن تمتثلوا أوامره لأنها قوت القلوب وحياة النفوس ونعيم الأرواح، وإياكم أن تتبعوا عدوكم الشيطان الذي يأمركم بالإمساك، ويخوفكم بالفقر والحاجة إذا أنفقتم، وليس هذا نصحًا لكم، بل هذا غاية الغش ‏{‏إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير‏}‏ بل أطيعوا ربكم الذي يأمركم بالنفقة على وجه يسهل عليكم ولا يضركم، ومع هذا فهو ‏{‏يعدكم مغفرة‏}‏ لذنوبكم وتطهيرا لعيوبكم ‏{‏وفضلا‏}‏ وإحسانا إليكم في الدنيا والآخرة، من الخلف العاجل، وانشراح الصدر ونعيم القلب والروح والقبر، وحصول ثوابها وتوفيتها يوم القيامة، وليس هذا عظيما عليه لأنه ‏{‏واسع‏}‏ الفضل عظيم الإحسان ‏{‏عليم‏}‏ بما يصدر منكم من النفقات قليلها وكثيرها، سرها وعلنها، فيجازيكم عليها من سعته وفضله وإحسانه، فلينظر العبد نفسه إلى أي الداعيين يميل، فقد تضمنت هاتان الآيتان أمورا عظيمة منها‏:‏ الحث على الإنفاق، ومنها‏:‏ بيان الأسباب الموجبة لذلك، ومنها‏:‏ وجوب الزكاة من النقدين وعروض التجارة كلها، لأنها داخلة في قوله‏:‏ ‏{‏من طيبات ما كسبتم‏}‏ ومنها‏:‏ وجوب الزكاة في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار والمعادن، ومنها‏:‏ أن الزكاة على من له الزرع والثمر لا على صاحب الأرض، لقوله ‏{‏أخرجنا لكم‏}‏ فمن أخرجت له وجبت عليه ومنها‏:‏ أن الأموال المعدة للاقتناء من العقارات والأواني ونحوها ليس فيها زكاة، وكذلك الديون والغصوب ونحوهما إذا كانت مجهولة، أو عند من لا يقدر ربها على استخراجها منه، ليس فيها زكاة، لأن الله أوجب النفقة من الأموال التي يحصل فيها النماء الخارج من الأرض، وأموال التجارة مواساة من نمائها، وأما الأموال التي غير معدة لذلك ولا مقدورا عليها فليس فيها هذا المعنى، ومنها‏:‏ أن الرديء ينهى عن إخراجه ولا يجزئ في الزكاة ثم قال تعالى‏:‏

‏[‏269‏]‏ ‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كثيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏

لما أمر تعالى بهذه الأوامر العظيمة المشتملة على الأسرار والحكم وكان ذلك لا يحصل لكل أحد، بل لمن منَّ عليه وآتاه الله الحكمة، وهي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها، وإن من آتاه الله الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرًا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين والنجاة من شقاوتهما‏!‏ وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة الأنبياء، فكمال العبد متوقف على الحكمة، إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به، وتكميل قوته العملية بالعمل بالخير وترك الشر، وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيره، وبدون ذلك لا يمكنه ذلك، ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد للحق، فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم، ومفصلين لهم ما لم يعرفوه، انقسم الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه، وما يضرهم فتركوه، وهؤلاء هم أولو الألباب الكاملة، والعقول التامة، وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم، بل أجابوا ما عرض لفطرهم من الفساد، وتركوا طاعة رب العباد، فهؤلاء ليسوا من أولي الألباب، فلهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يذكر إلا أولو الألباب‏}‏

‏[‏270‏]‏ ‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ‏}‏


وهذا فيه المجازاة على النفقات، واجبها ومستحبها، قليلها وكثيرها، التي أمر الله بها، والنذور التي ألزمها المكلف نفسه، وإن الله تعالى يعلمها فلا يخفى عليه منها شيء، ويعلم ما صدرت عنه، هل هو الإخلاص أو غيره، فإن صدرت عن إخلاص وطلب لمرضاة الله جازى عليها بالفضل العظيم والثواب الجسيم، وإن لم ينفق العبد ما وجب عليه من النفقات ولم يوف ما أوجبه على نفسه من المنذورات، أو قصد بذلك رضى المخلوقات، فإنه ظالم قد وضع الشيء في غير موضعه، واستحق العقوبة البليغة، ولم ينفعه أحد من الخلق ولم ينصره، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏
[/b]







التوقيع: wissam



تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية - صفحة 2 2410



الأربعاء سبتمبر 28, 2016 3:29 pm
المشاركة رقم: #
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
Admin
الرتبه:
Admin
الصورة الرمزية

wissam

البيانات
عدد المساهمات : 18291
السٌّمعَة : 21
تاريخ الميلاد : 16/04/1968
تاريخ التسجيل : 29/07/2016
العمر : 56
العمل/الترفيه : ربة منزل

الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
https://wahetaleslam.yoo7.com

مُساهمةموضوع: رد: تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية


تفسير سورة البقرة

من 271 - 286


[‏271‏]‏{‏إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏


أي‏:‏ ‏{‏إن تبدوا الصدقات‏}‏ فتظهروها وتكون علانية حيث كان القصد بها وجه الله ‏{‏فنعما هي‏}‏ أي‏:‏ فنعم الشيء ‏{‏هي‏}‏ لحصول المقصود بها ‏{‏وإن تخفوها‏}‏ أي‏:‏ تسروها ‏{‏وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم‏}‏ ففي هذا أن صدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلانية، وأما إذا لم تؤت الصدقات الفقراء فمفهوم الآية أن السر ليس خيرا من العلانية، فيرجع في ذلك إلى المصلحة، فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين وحصول الاقتداء ونحوه، فهو أفضل من الإسرار، ودل قوله‏:‏ ‏{‏وتؤتوها الفقراء‏}‏ على أنه ينبغي للمتصدق أن يتحرى بصدقته المحتاجين، ولا يعطي محتاجا وغيره أحوج منه، ولما ذكر تعالى أن الصدقة خير للمتصدق ويتضمن ذلك حصول الثواب قال‏:‏ ‏{‏ويكفر عنكم من سيئاتكم‏}‏ ففيه دفع العقاب ‏{‏والله بما تعملون خبير‏}‏ من خير وشر، قليل وكثير والمقصود من ذلك المجازاة‏.‏

‏[‏272 ـ 274‏]‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏


يقول تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس عليك هدي الخلق، وإنما عليك البلاغ المبين، والهداية بيد الله تعالى، ففيها دلالة على أن النفقة كما تكون على المسلم تكون على الكافر ولو لم يهتد، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير‏}‏ أي‏:‏ قليل أو كثير على أي شخص كان من مسلم وكافر ‏{‏فلأنفسكم‏}‏ أي‏:‏ نفعه راجع إليكم ‏{‏وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله‏}‏ هذا إخبار عن نفقات المؤمنين الصادرة عن إيمانهم أنها لا تكون إلا لوجه الله تعالى، لأن إيمانهم يمنعهم عن المقاصد الردية ويوجب لهم الإخلاص ‏{‏وما تنفقوا من خير يوف إليكم‏}‏ يوم القيامة تستوفون أجوركم ‏{‏وأنتم لا تظلمون‏}‏ أي‏:‏ تنقصون من أعمالكم شيئًا ولا مثقال ذرة، كما لا يزاد في سيئاتكم‏.‏

ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات أحدها الفقر، والثاني قوله‏:‏ ‏{‏أحصروا في سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ قصروها على طاعة الله من جهاد وغيره، فهم مستعدون لذلك محبوسون له، الثالث عجزهم عن الأسفار لطلب الرزق فقال‏:‏ ‏{‏لا يستطيعون ضربا في الأرض‏}‏ أي‏:‏ سفرا للتكسب، الرابع قوله‏:‏ ‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف‏}‏ وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم‏.‏ الخامس‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏{‏تعرفهم بسيماهم‏}‏ أي‏:‏ بالعلامة التي ذكرها الله في وصفهم، وهذا لا ينافي قوله‏:‏ ‏{‏يحسبهم الجاهل أغنياء‏}‏ فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة يتفرس بها ما هم عليه، وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم يعرفهم بعلامتهم، السادس قوله‏:‏ ‏{‏لا يسألون الناس إلحافا‏}‏ أي‏:‏ لا يسألونهم سؤال إلحاف، أي‏:‏ إلحاح، بل إن صدر منهم سؤال إذا احتاجوا لذلك لم يلحوا على من سألوا، فهؤلاء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما وصفهم به من جميل الصفات، وأما النفقة من حيث هي على أي شخص كان، فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم‏}‏

ثم ذكر حالة المتصدقين في جميع الأوقات على جميع الأحوال فقال‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ طاعته وطريق مرضاته، لا في المحرمات والمكروهات وشهوات أنفسهم ‏{‏بالليل والنهار سرًا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم‏}‏ أي‏:‏ أجر عظيم من خير عند الرب الرحيم ‏{‏ولا خوف عليهم‏}‏ إذا خاف المقصرون ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ إذا حزن المفرطون، ففازوا بحصول المقصود المطلوب، ونجوا من الشرور والمرهوب، ولما كمل تعالى حالة المحسنين إلى عباده بأنواع النفقات ذكر حالة الظالمين المسيئين إليهم غاية الإساءة فقال‏:‏

‏[‏275 ـ 281‏]‏ ‏{‏الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏


يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم ‏{‏إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏}‏ أي‏:‏ يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال، فكما تقلبت عقولهم و ‏{‏قالوا إنما البيع مثل الربا‏}‏ وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله، أو متجاهل عظيم عناده، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين، ويحتمل أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏}‏ أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم، قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة ‏{‏وأحل الله البيع‏}‏ أي‏:‏ لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر بتحريمه، وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما يدل على المنع ‏{‏وحرم الربا‏}‏ لما فيه من الظلم وسوء العاقبة، والربا نوعان‏:‏ ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة، ومنه جعل ما في الذمة رأس مال، سلم، وربا فضل، وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه متفاضلا، وكلاهما محرم بالكتاب والسنة، والإجماع على ربا النسيئة، وشذ من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة، بل الربا من كبائر الذنوب وموبقاتها ‏{‏فمن جاءه موعظة من ربه‏}‏ أي‏:‏ وعظ وتذكير وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله بالموعوظ، وإقامة للحجة عليه ‏{‏فانتهى‏}‏ عن فعله وانزجر عن تعاطيه ‏{‏فله ما سلف‏}‏ أي‏:‏ ما تقدم من المعاملات التي فعلها قبل أن تبلغه الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة، دل مفهوم الآية أن من لم ينته جوزي بالأول والآخر ‏{‏وأمره إلى الله‏}‏ في مجازاته وفيما يستقبل من أموره ‏{‏ومن عاد‏}‏ إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة، بل أصر على ذلك ‏{‏فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ اختلف العلماء رحمهم الله في نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون الشرك بالله، والأحسن فيها أن يقال هذه الأمور التي رتب الله عليها الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك، ولكن الموجب إن لم يوجد ما يمنعه ترتب عليه مقتضاه، وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن التوحيد والإيمان مانع من الخلود في النار، فلولا ما مع الإنسان من التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يمحق الله الربا‏}‏ أي‏:‏ يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا، فيكون سببا لوقوع الآفات فيه ونزع البركة عنه، وإن أنفق منه لم يؤجر عليه بل يكون زادا له إلى النار ‏{‏ويربي الصدقات‏}‏ أي‏:‏ ينميها وينزل البركة في المال الذي أخرجت منه وينمي أجر صاحبها وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير شرعي، فجوزي بذهاب ماله، والمحسن إليهم بأنواع الإحسان ربه أكرم منه، فيحسن عليه كما أحسن على عباده ‏{‏والله لا يحب كل كفار‏}‏ لنعم الله، لا يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات، ولا يسلم منه ومن شره عباد الله ‏{‏أثيم‏}‏ أي‏:‏ قد فعل ما هو سبب لإثمه وعقوبته‏.‏

لما ذكر أكلة الربا وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لم يصدر منهم ما صدر ذكر حالة المؤمنين وأجرهم، وخاطبهم بالإيمان، ونهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين، وهؤلاء هم الذين يقبلون موعظة ربهم وينقادون لأمره، وأمرهم أن يتقوه، ومن جملة تقواه أن يذروا ما بقي من الربا أي‏:‏ المعاملات الحاضرة الموجودة، وأما ما سلف، فمن اتعظ عفا الله عنه ما سلف، وأما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل نصيحته فإنه مشاق لربه محارب له، وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه، أخذه أخذ عزيز مقتدر ‏{‏وإن تبتم‏}‏ عن الربا ‏{‏فلكم رءوس أموالكم‏}‏ أي‏:‏ أنزلوا عليها ‏{‏لا تظلمون‏}‏ من عاملتموه بأخذ الزيادة التي هي الربا ‏{‏ولا تظلمون‏}‏ بنقص رءوس أموالكم‏.‏

‏{‏وإن كان‏}‏ المدين ‏{‏ذو عسرة‏}‏ لا يجد وفاء ‏{‏فنظرة إلى ميسرة‏}‏ وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به ‏{‏وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏ إما بإسقاطها أو بعضها‏.‏

‏{‏واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏ وهذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وجعلت خاتمة لهذه الأحكام والأوامر والنواهي، لأن فيها الوعد على الخير، والوعيد على فعل الشر، وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة، أوجب له الرغبة والرهبة، وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل إلى ذلك‏.‏

‏[‏282‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شيئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏


هذه آية الدين، وهي أطول آيات القرآن، وقد اشتملت على أحكام عظيمة جليلة المنفعة والمقدار، أحدها‏:‏ أنه تجوز جميع أنواع المداينات من سلم وغيره، لأن الله أخبر عن المداينة التي عليها المؤمنون إخبار مقرر لها ذاكرا أحكامها، وذلك يدل على الجواز، الثاني والثالث أنه لا بد للسلم من أجل وأنه لا بد أن يكون معينا معلوما فلا يصح حالا ولا إلى أجل مجهول، الرابع‏:‏ الأمر بكتابة جميع عقود المداينات إما وجوبا وإما استحبابا لشدة الحاجة إلى كتابتها، لأنها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان والمنازعة والمشاجرة شر عظيم، الخامس‏:‏ أمر الكاتب أن يكتب، السادس‏:‏ أن يكون عدلا في نفسه لأجل اعتبار كتابته، لأن الفاسق لا يعتبر قوله ولا كتابته، السابع أنه يجب عليه العدل بينهما، فلا يميل لأحدهما لقرابة أو صداقة أو غير ذلك، الثامن‏:‏ أن يكون الكاتب عارفا بكتابة الوثائق وما يلزم فيها كل واحد منهما، وما يحصل به التوثق، لأنه لا سبيل إلى العدل إلا بذلك، وهذا مأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏وليكتب بينكم كاتب بالعدل‏}‏ التاسع‏:‏ أنه إذا وجدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة يعمل بها، ولو كان هو والشهود قد ماتوا، العاشر‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ولا يأب كاتب أن يكتب‏}‏ أي‏:‏ لا يمتنع من منَّ الله عليه بتعليمه الكتابة أن يكتب بين المتداينين، فكما أحسن الله إليه بتعليمه، فليحسن إلى عباد الله المحتاجين إلى كتابته، ولا يمتنع من الكتابة لهم، الحادي عشر‏:‏ أمر الكاتب أن لا يكتب إلا ما أملاه من عليه الحق، الثاني عشر‏:‏ أن الذي يملي من المتعاقدين من عليه الدين، الثالث عشر‏:‏ أمره أن يبين جميع الحق الذي عليه ولا يبخس منه شيئًا، الرابع عشر‏:‏ أن إقرار الإنسان على نفسه مقبول، لأن الله أمر من عليه الحق أن يمل على الكاتب، فإذا كتب إقراره بذلك ثبت موجبه ومضمونه، وهو ما أقر به على نفسه، ولو ادعى بعد ذلك غلطًا أو سهوًا، الخامس عشر‏:‏ أن من عليه حقًا من الحقوق التي البينة على مقدارها وصفتها من كثرة وقلة وتعجيل وتأجيل، أن قوله هو المقبول دون قول من له الحق، لأنه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي عليه، إلا أن قوله مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته، السادس عشر‏:‏ أنه يحرم على من عليه حق من الحقوق أن يبخس وينقص شيئًا من مقداره، أو طيبه وحسنه، أو أجله أو غير ذلك من توابعه ولواحقه، السابع عشر‏:‏ أن من لا يقدر على إملاء الحق لصغره أو سفهه أو خرسه، أو نحو ذلك، فإنه ينوب وليه منابه في الإملاء والإقرار، الثامن عشر‏:‏ أنه يلزم الولي من العدل ما يلزم من عليه الحق من العدل، وعدم البخس لقوله ‏{‏بالعدل‏}‏ التاسع عشر‏:‏ أنه يشترط عدالة الولي، لأن الإملاء بالعدل المذكور لا يكون من فاسق، العشرون‏:‏ ثبوت الولاية في الأموال، الحادي والعشرون‏:‏ أن الحق يكون على الصغير والسفيه والمجنون والضعيف، لا على وليهم، الثاني والعشرون‏:‏ أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون والمعتوه ونحوهم وتصرفهم غير صحيح، لأن الله جعل الإملاء لوليهم، ولم يجعل لهم منه شيئًا لطفا بهم ورحمة، خوفا من تلاف أموالهم، الثالث والعشرون‏:‏ صحة تصرف الولي في مال من ذكر، الرابع والعشرون‏:‏ فيه مشروعية كون الإنسان يتعلم الأمور التي يتوثق بها المتداينون كل واحد من صاحبه، لأن المقصود من ذلك التوثق والعدل، وما لا يتم المشروع إلا به فهو مشروع، الخامس والعشرون‏:‏ أن تعلم الكتابة مشروع، بل هو فرض كفاية، لأن الله أمر بكتابة الديون وغيرها، ولا يحصل ذلك إلا بالتعلم، السادس والعشرون‏:‏ أنه مأمور بالإشهاد على العقود، وذلك على وجه الندب، لأن المقصود من ذلك الإرشاد إلى ما يحفظ الحقوق، فهو عائد لمصلحة المكلفين، نعم إن كان المتصرف ولي يتيم أو وقف ونحو ذلك مما يجب حفظه تعين أن يكون الإشهاد الذي به يحفظ الحق واجبا، السابع والعشرون‏:‏ أن نصاب الشهادة في الأموال ونحوها رجلان أو رجل وامرأتان، ودلت السنة أيضًا أنه يقبل الشاهد مع يمين المدعي، الثامن والعشرون‏:‏ أن شهادة الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل، التاسع والعشرون‏:‏ أن شهادة النساء منفردات في الأموال ونحوها لا تقبل، لأن الله لم يقبلهن إلا مع الرجل، وقد يقال إن الله أقام المرأتين مقام رجل للحكمة التي ذكرها وهي موجودة سواء كن مع رجل أو منفردات والله أعلم‏.‏ الثلاثون‏:‏ أن شهادة العبد البالغ مقبولة كشهادة الحر لعموم قوله‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم‏}‏ والعبد البالغ من رجالنا، الحادي والثلاثون‏:‏ أن شهادة الكفار ذكورا كانوا أو نساء غير مقبولة، لأنهم ليسوا منا، ولأن مبنى الشهادة على العدالة وهو غير عدل، الثاني والثلاثون‏:‏ فيه فضيلة الرجل على المرأة، وأن الواحد في مقابلة المرأتين لقوة حفظه ونقص حفظها، الثالث والثلاثون‏:‏ أن من نسي شهادته ثم ذكرها فذكر فشهادته مقبولة لقوله‏:‏ ‏{‏فتذكر إحداهما الأخرى‏}‏ الرابع والثلاثون‏:‏ يؤخذ من المعنى أن الشاهد إذا خاف نسيان شهادته في الحقوق الواجبة وجب عليه كتابتها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والخامس والثلاثون‏:‏ أنه يجب على الشاهد إذا دعي للشهادة وهو غير معذور، لا يجوز له أن يأبى لقوله‏:‏ ‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏}‏ السادس والثلاثون‏:‏ أن من لم يتصف بصفة الشهداء المقبولة شهادتهم، لم يجب عليه الإجابة لعدم الفائدة بها ولأنه ليس من الشهداء، السابع والثلاثون‏:‏ النهي عن السآمة والضجر من كتابة الديون كلها من صغير وكبير وصفة الأجل وجميع ما احتوى عليه العقد من الشروط والقيود، الثامن والثلاثون‏:‏ بيان الحكمة في مشروعية الكتابة والإشهاد في العقود، وأنه ‏{‏أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا‏}‏ فإنها متضمنة للعدل الذي به قوام العباد والبلاد، والشهادة المقترنة بالكتابة تكون أقوم وأكمل وأبعد من الشك والريب والتنازع والتشاجر، التاسع والثلاثون‏:‏ يؤخذ من ذلك أن من اشتبه وشك في شهادته لم يجز له الإقدام عليها بل لا بد من اليقين، الأربعون‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها‏}‏ فيه الرخصة في ترك الكتابة إذا كانت التجارة حاضرا بحاضر، لعدم شدة الحاجة إلى الكتابة، الحادي والأربعون‏:‏ أنه وإن رخص في ترك الكتابة في التجارة الحاضرة، فإنه يشرع الإشهاد لقوله‏:‏ ‏{‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ الثاني والأربعون‏:‏ النهي عن مضارة الكاتب بأن يدعى وقت اشتغال وحصول مشقة عليه، الثالث والأربعون‏:‏ النهي عن مضارة الشهيد أيضًا بأن يدعى إلى تحمل الشهادة أو أدائها في مرض أو شغل يشق عليه، أو غير ذلك هذا على جعل قوله‏:‏ ‏{‏ولا يضار كاتب ولا شهيد‏}‏ مبنيا للمجهول، وأما على جعلها مبنيا للفاعل ففيه نهي الشاهد والكاتب أن يضارا صاحب الحق بالامتناع أو طلب أجرة شاقة ونحو ذلك، وهذان هما الرابع والأربعون والخامس والأربعون والسادس والأربعون أن ارتكاب هذه المحرمات من خصال الفسق لقوله‏:‏ ‏{‏وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم‏}‏ السابع والأربعون أن الأوصاف كالفسق والإيمان والنفاق والعداوة والولاية ونحو ذلك تتجزأ في الإنسان، فتكون فيه مادة فسق وغيرها، وكذلك مادة إيمان وكفر لقوله‏:‏ ‏{‏فإنه فسوق بكم‏}‏ ولم يقل فأنتم فاسقون أو فُسّاق‏.‏ الثامن والأربعون‏:‏ ـ وحقه أن يتقدم على ما هنا لتقدم موضعه ـ اشتراط العدالة في الشاهد لقوله‏:‏ ‏{‏ممن ترضون من الشهداء‏}‏ التاسع والأربعون‏:‏ أن العدالة يشترط فيها العرف في كل مكان وزمان، فكل من كان مرضيا معتبرا عند الناس قبلت شهادته، الخمسون‏:‏ يؤخذ منها عدم قبول شهادة المجهول حتى يزكى، فهذه الأحكام مما يستنبط من هذه الآية الكريمة على حسب الحال الحاضرة والفهم القاصر، ولله في كلامه حكم وأسرار يخص بها من يشاء من عباده‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

‏[‏283‏]‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بعضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏


أي‏:‏ إن كنتم مسافرين ‏{‏ولم تجدوا كاتبًا‏}‏ يكتب بينكم ويحصل به التوثق ‏{‏فرهان مقبوضة‏}‏ أي‏:‏ يقبضها صاحب الحق وتكون وثيقة عنده حتى يأتيه حقه، ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة لا يحصل منها التوثق، ودل أيضًا على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رهنت به، كان القول قول المرتهن، ووجه ذلك أن الله جعل الرهن عوضًا عن الكتابة في توثق صاحب الحق، فلولا أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به لم يحصل المعنى المقصود، ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرًا وسفرًا، وإنما نص الله على السفر، لأنه في مظنة الحاجة إليه لعدم الكاتب فيه، هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه، فما كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن يعامله من دون رهن فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كاملًا غير ظالم له ولا باخس حقه ‏{‏وليتق الله ربه‏}‏ في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالإحسان ‏{‏ولا تكتموا الشهادة‏}‏ لأن الحق مبني عليها لا يثبت بدونها، فكتمها من أعظم الذنوب، لأنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو الكذب، ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم‏}‏ وقد اشتملت هذه الأحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلاح دينهم، لاشتمالها على العدل والمصلحة، وحفظ الحقوق وقطع المشاجرات والمنازعات، وانتظام أمر المعاش، فلله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه لا نحصي ثناء عليه‏.‏

‏[‏284‏]‏ ‏{‏لِلَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏


هذا إخبار من الله أنه له ما في السموات وما في الأرض، الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية، فكانوا ملكا له وعبيدا، لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه، وقد أمرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه، ‏{‏فيغفر لمن يشاء‏}‏ وهو لمن أتى بأسباب المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ لا يعجزه شيء، بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه‏.‏

‏[‏285‏]‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ‏}‏


يخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه، وانقيادهم وطاعتهم وسؤالهم مع ذلك المغفرة، فأخبر أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله على وجه الإجمال والتفصيل، وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص، ويتضمن الإيمان بالملائكة الذين نصت عليهم الشرائع جملة وتفصيلا، وعلى الإيمان بجميع الرسل والكتب، أي‏:‏ بكل ما أخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الأخبار والأوامر والنواهي، وأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله، بل يؤمنون بجميعهم، لأنهم وسائط بين الله وبين عباده، فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم بل كفر بالله ‏{‏وقالوا سمعنا‏}‏ ما أمرتنا به ونهيتنا ‏{‏وأطعنا‏}‏ لك في ذلك، ولم يكونوا ممن قالوا سمعنا وعصينا، ولما كان العبد لا بد أن يحصل منه تقصير في حقوق الله تعالى وهو محتاج إلى مغفرته على الدوام، قالوا ‏{‏غفرانك‏}‏ أي‏:‏ نسألك مغفرة لما صدر منا من التقصير والذنوب، ومحو ما اتصفنا به من العيوب ‏{‏وإليك المصير‏}‏ أي‏:‏ المرجع لجميع الخلائق فتجزيهم بما عملوا من خير وشر‏.‏

‏[‏286‏]‏ ‏{‏لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}‏


لما نزل قوله تعالى ‏{‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‏}‏ شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي‏:‏ أمرا تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى ‏{‏ما جعل عليكم في الدين من حرج‏}‏ فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدًان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم، ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما كسبت من الخير، وعليها ما اكتسبت من الشر، فلا تزر وازرة وزر أخرى ولا تذهب حسنات العبد لغيره، وفي الإتيان بـ ‏"‏كسب‏"‏ في الخير الدال على أن عمل الخير يحصل للإنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب وأتى بـ ‏"‏اكتسب‏"‏ في عمل الشر للدلالة على أن عمل الشر لا يكتب على الإنسان حتى يعمله ويحصل سعيه، ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله، وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان، وأخبر أنه لا يكلفنا إلا ما نطيق وتسعه قوتنا، أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك، وقد أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله قال‏:‏ قد فعلت‏.‏ إجابة لهذا الدعاء، فقال ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏}‏ والفرق بينهما‏:‏ أن النسيان‏:‏ ذهول القلب عن ما أمر به فيتركه نسيانا، والخطأ‏:‏ أن يقصد شيئًا يجوز له قصده ثم يقع فعله على ما لا يجوز له فعله‏:‏ فهذان قد عفا الله عن هذه الأمة ما يقع بهما رحمة بهم وإحسانا، فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب، أو نجس، أو قد نسي نجاسة على بدنه، أو تكلم في الصلاة ناسيا، أو فعل مفطرا ناسيا، أو فعل محظورًا من محظورات الإحرام التي ليس فيها إتلاف ناسيا، فإنه معفو عنه، وكذلك لا يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا، وكذلك لو أخطأ فأتلف نفسا أو مالا فليس عليه إثم، وإنما الضمان مرتب على مجرد الإتلاف، وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها الإنسان ناسيا لم يضر‏.‏ ‏{‏ربنا ولا تحمل علينا إصرًا‏}‏ أي‏:‏ تكاليف مشقة ‏{‏كما حملته على الذين من قبلنا‏}‏ وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه الأمة في الأوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها ‏{‏ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به‏}‏ وقد فعل وله الحمد ‏{‏واعف عنا واغفر لنا وارحمنا‏}‏ فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور، والرحمة يحصل بها صلاح الأمور ‏{‏أنت مولانا‏}‏ أي‏:‏ ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل ولايتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الأوقات، ثم أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة، وهي نعمة الإسلام التي جميع النعم تبع لها، فنسألك يا ربنا ومولانا تمام نعمتك بأن تنصرنا على القوم الكافرين، الذين كفروا بك وبرسلك، وقاوموا أهل دينك ونبذوا أمرك، فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان، بأن تمكن لنا في الأرض وتخذلهم وترزقنا الإيمان والأعمال التي يحصل بها النصر، والحمد لله رب العالمين‏.‏ تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه وصلى الله على محمد وسلم‏.‏


تم بحمد الله تفسير سورة البقرة
منقول
من

تفسير السعدي (تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن)







التوقيع: wissam



تفسير سورة البقرة للشيخ السعدي- مدنية - صفحة 2 2410




الإشارات المرجعية


التعليق على الموضوع بواسطة الفيس بوك

الــرد الســـريـع
..


مواضيع ذات صلة


تعليمات المشاركة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة




 ملاحظة: جميع آلمشآركآت آلمكتوبه تعبّر عن وجهة نظر صآحبهآ , ولا تعبّر بأي شكل من آلأشكآل عن وجهة نظر إدآرة آلمنتدى



language  

Powered by vBulletin Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2020, Jelsoft Enterprises Ltd
تحويل و برمجة الطائر الحر لخدمات الدعم الفني و التطوير